ثم إنه ينبغي تفسير الأجل المسمى بوقت سوقها لا وقت نحرها ، لأنّ صاحبها قد جعلها بالسوق خالصة لله تعالى ، فقد خرجت عن ملكه بذلك فلا يجوز له حينئذ أن ينتفع بشيء منها إلا عند الضرورة ، وما انتفع به كان حقا للفقراء يجب أن يعوضهم منه مقدار قيمته.
يشهد لهذا ما ورد من الأحاديث التي قيّدت جواز الانتفاع بحالة الضرورة ، فيجب أن يحمل غيرها عليها جمعا بين الأدلة. من ذلك ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر (١) : أنه سئل عن ركوب الهدي فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» فمن هذا يعلم أن الجواز خاصّ بحالة الضرورة ، فإنّ الإلجاء إلى ركوبها هو الاضطرار إليه. وقالوا أيضا : إن ركوبها ينافي تعظيمها ، إذ في الركوب امتهان واستهانة ظاهرة ، مع أنّ تعظيمها مطلوب بنفس الآية ، وإذا فلا يركبها إلا إذا ألجئ.
حجة القائلين بالوجوب : استدل القائلون بالوجوب بظاهر الأمر بالركوب فيما سبق من الأحاديث. وقالوا أيضا : إنّ في ركوبه مخالفة لما كان يصنعه أهل الجاهلية من مجانبة البحيرة والسائبة والوصيلة. وهو مردود بأنّ النبي صلىاللهعليهوسلم لم يركب هديه ، ولم يركبه غيره ، ولم يأمر الناس جميعا بركوب هداياهم ، إلا ذلك المضطر ، كما تقدم ، فدل ذلك على عدم الوجوب.
أما المالكية فالمشهور من مذهبهم أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها ولبنها ، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها ، والوجه فيه ظاهر ، ومذهبهم على هذا قريب من مذهب الحنفية.
وقال النووي من الشافعية والزيلعي من الحنفية : إنّ الإمام مالكا يقول بجواز ركوب البدن ، ولو من غير حاجة ، فلو صحّ هذا فالحجج المتقدمة ناطقة بخلافه.
هذا والظاهر من قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أنّ جميع الهدايا يجب أن تذبح في هذا المحل ، سواء في ذلك ما تعلّق وجوبه بالإحرام ، كما في جزاء الصيد والفدية ودم التمتع ودم الإحصار ، وما التزمه الإنسان كما في الدم الذي يتطوّع به إلى الحرم ، أو ينذره كذلك.
قال الله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤))
المنسك : بفتح السين وكسرها : مفعل من النسك ، بمعنى العبادة ، فيصح أن
__________________
(١) سبق تخريجه.