الحكم كلي ، وحاصله أنه قد يعدل بحسب الظاهر عما يدل على عموم السلب إلى ما يفيد سلب العموم ظاهرا ، وإن كان السلب عاما بحسب الحقيقة تعريضا بأنّ المخاطبين شرّ هذا النوع ، كما جاء في الآية الكريمة : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) تعريضا بما نزلت فيهم من الأعداء بأنّ محبة الله تعالى لا تنالهم بأي وجه من الوجوه ، وأنّه لو تعلّقت محبة الله بخائن كافر فإنّها لا تتعلق بأولئك ، لأنهم شر هذا النوع ، ولا يخفى عليك أن بناء الحكم على أبعد الفروض والاحتمالات أبلغ وأقوى ، لأن بناءه على تلك الصورة يجعل السامع لا يتطرق إليه أي احتمال آخر في خلاف الحكم.
قال الله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩))
الإذن معناه الترخيص ، فهو للإباحة بعد الحظر ، وقرئ كلّ من (أُذِنَ) و (يُقاتَلُونَ) بالبناء للمفعول وبالبناء للفاعل.
هذه هي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية ، على ما روى الحاكم في «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري وكذا النسائي بإسناد صحيح عنه موقوفا عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي وابن سعد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : لما خرج النبي صلىاللهعليهوسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكنّ ، فنزلت : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا). قال ابن عباس : فهي أول آية نزلت في القتال (١).
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية : أول آية نزلت فيه (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠].
وفي «الإكليل» للحاكم أنّ أوّل آية نزلت فيه : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ).
والظاهر الأول ، وبه قال كثير من السلف كابن عباس ؛ ومجاهد ، والضحاك ؛ وعروة بن الزبير ؛ وزيد بن أسلم ؛ ومقاتل ؛ وقتادة وغيرهم ، ويؤيده أيضا ذكرها بعد الوعد بالمدافعة والنصر.
المفردات : (أُذِنَ) المقصود به إباحة القتال ومشروعيته على القول الأول ، وحكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية وغايتها على القول الثاني.
__________________
(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ٣٠٥) ، كتاب التفسير حديث رقم (٣١٧١) ، والنسائي في السنن (٥ ـ ٦ / ٣٠٩) ، كتاب الجهاد ، باب وجوب الجهاد حديث رقم (٣٠٨٥) ، وأحمد في المسند (١ / ٢١٦) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (٢ / ٥٢).