الْحَمِيدِ (٨)) [البروج : ٨] ، ونالوا منهم أشد ما يناله عدوّ من عدوه ، طمعا في ارتدادهم عن دينهم ، والحيلولة بينهم وبين الالتفات حول الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، وقد غاب عنهم أن الدين الحق متى خالطت بشاشته القلوب ، واستقر في أعماق النفوس ، كان التعذيب والتقتيل والتنكيل أهون عليها من انتزاع الدين منها.
ولست أبالي حين أقتل مسلما |
|
على أيّ جنب كان في الله مصرعي |
فكانوا أمام هذه العواصف الهوجاء والمواقف الرهيبة والفتن التي كانت كقطع الليل المظلم أثبت على حبهم لرسولهم صلىاللهعليهوسلم من الجبال الرواسي ، فما استطاعوا فتنة مسلم عن دينه ، ولا تحويل قلبه عن حب الله وحب رسوله صلىاللهعليهوسلم.
لم يقف ظلم هؤلاء الظالمين عند حد الأتباع والأنصار ، بل آذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأشد أنواع الإيذاء ، رموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، وحثوا على رأسه التراب ، ووضعوا بين كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه سلا (١) جزور وهم يتضاحكون ، وأغرت ثقيف سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويرمون عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء ، وهذا قليل من كثير مما فعلوه معه صلىاللهعليهوسلم ، وهو صابر على أذيّتهم ، محتسب عند الله ما يناله معهم.
فعلوا كل هذا وأكثر منه بالمسلمين حتى ألجئوهم على الخروج من أوطانهم وترك أموالهم وأهليهم فرارا بدينهم.
فأيّ ظلم أقبح وأشنع من هذا الظلم الذي لم يرتكبوه إلا انتصارا للباطل ، واضطهادا للحق ، وإيثارا لعبادة الأوثان على عبادة الله الواحد القهار ، والذي لم يتعفف أهله عن الإسفاف في الخصومة والفجور في الإيذاء.
قال تعالى : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ذهب كثير من المفسرين إلى أنه وعد بالنصر ، وتأكيد لما مرّ من الوعد بالدفاع عن المؤمنين ، وتصريح بأنّ المراد بالوعد السابق ليس مجرد تخليصهم من أيدي عدوهم ، بل إظهارهم عليهم ، وتمكينهم في الأرض ، وهو إخبار وارد على سبيل العزة والكبرياء ، كما يقول الملك : إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا يريد بذلك حقيقة الإخبار بالقدرة على ذلك ، بل يريد أنه سيفعل على سبيل التأكيد.
وذهب ابن كثير إلى أن المعنى : أنه تعالى قادر على نصر المؤمنين من غير قتال وجهاد ، ولكنه أذن لهم في القتال ، وندبهم إلى الجهاد ، لأنه يريد من عباده بذل جهدهم في طاعته ، كما قال تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
__________________
(١) سلا الجزور : هو اللفافة التي يكون بها الجنين عند الولادة ، وهو من الآدمية المستيمة.