الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد : ٤].
وقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) [التوبة : ١٦] وقال : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)) [محمد : ٣١].
وقال : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢)) [العنكبوت : ٢].
أقول : وعلى هذا القول يكون المقصود هو تنبيه المسلمين إلى أنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار ، وأنّ الحياة ميدان تسابق وتنافس ، وأن مدار هذا الدين على الإرادة والاختبار ، لا على الإكراه والاضطرار ، وأنّ الجزاء من جنس العمل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٧ ، ٨] ولا يكون ذلك كله إلا بفتح أبواب العمل أمام العاملين ، ودعوة الناس إلى الجهاد والكفاح ، وابتلائهم بمواقع الشدائد والمحن ، لكي يتبين المجاهدون من القاعدين ، والمخلصون من المنافقين. ومن آمن حبا في الله ورسوله ممن آمن حبا في الإبقاء على نفسه وماله وجاهه ، وإلا فلو كان النصر حليف المسلمين من غير قتال وجهاد ، وكان المؤمن معافى في نفسه وماله وولده ، متقلبا في أحضان النعيم من مهده إلى لحده ، لما كانت الدنيا دار ابتلاء واختبار ولما كان إيمان المؤمن اختيارا وترجيحا للإيمان على الكفر ، وإيثارا لمرضاة الله ومحابّه على مرضاة نفسه وشهواته ، ولبطلت التكاليف المبنية على الإرادة والاختيار ومحاربة النفس والهوى ، ولما كان الجزاء ثمرة للعمل ، ونتيجة لازمة للكد والتعب ، فعليهم أن يلتزموا هذه السنن ، وأن يعملوا على مقتضاها ، وفي ذلك بلوغ المأمول وإنجاز الموعود.
قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))
قيل : إن الأمر في هذه الآية بالركوع والسجود والعبادة وفعل الخير متوجه إلى الناس جميعا ، إذ إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، غير أن الخطاب فيها خصّ به المؤمنون لمزيد الاعتناء بهم وتشريفهم ، ولأنهم هم الذين ينتفعون بهذا التكليف.
وقيل : إن هذه الأوامر خاصة بالمؤمنين ، كما أنّ الخطاب متوجه إليهم وحدهم. أما الكفار فإنّهم لما أعرضوا عن قبول دين الله ، ولم يستجيبوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأبوا من قبل أن يمتثلوا لهذه الأوامر ، أعرض الله عنهم ، وصرف خطابه وأوامره إلى أهل طاعته الذين يعرفون حقه ، ويمتثلون أحكامه. أما أولئك الكفار فإنّهم لا ينفع فيها إرشاد ، ولا يرجى منهم قبول ولا امتثال ، فهم جديرون بالترك والإهدار. وهذا المعنى أحسن وأوجه ، وهو سائر حتى مع القول بتكليف الكفار بالفروع ، وهو الذي