(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) كما يقول مجاهد والكلبي ، فإنّهما يقولان : إنّ حقّ الجهاد غاية لا يستطيعها عامّة المكلفين ، فإنّها قد تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة ، ولكنك قد علمت الصواب في ذلك.
وإضافة (حق) إلى (جهاد) في قوله تعالى : (حَقَّ جِهادِهِ) من إضافة الصفة للموصوف : كما يقال : حق يقين ، وشبيه به قولهم فلان حق عالم ، وهو جد ذكي ، أما إضافة جهاد للضمير في قوله : (جِهادِهِ) فهي لأدنى ملابسة. وذلك لأنّ هذا الجهاد لما كان مطلوبا لله ومن أجل دينه كان خاصّا به سبحانه وتعالى ، فصحّ أن تقع فيه هذه الإضافة التي تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه وأصله : وجاهدوا في الله حق جهادكم فيه ، فحذف المضاف إليه ، والجار للضمير فاتصل الضمير بالمضاف.
(هُوَ اجْتَباكُمْ) الاجتباء : الاصطفاء والاختيار. وهذه الجملة واقعة في مقام التعليل للأمر بالجهاد ، فالله وفّق المسلمين لقبول الإسلام ، واختارهم لدينه ، وشرّفهم بأن يكونوا خدام شريعته ، يقيمونها ، ويحفظونها ممن يريدها بتحريف أو عدوان ، فجدير بمن اختارهم الله لهذا الأمر العظيم أن يبذلوا كل ما عندهم من استطاعة في حماية دينه ، وألا يهملوا رعايته ، أو يهنوا في حراسته ، ولا شكّ أنّ الحكم بأنه سبحانه قد اجتبى المسلمين لذلك ، من خير ما يبعثهم على أن يجاهدوا في الله حق الجهاد.
(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحرج : الضيق كما فسره بذلك ابن عباس ومجاهد.
أكد الله بهذا وجوب الجهاد على الناس ، ولزوم محافظتهم على الدين الذي اختارهم لحمايته ، فإنّه نفى أن يكون في أحكامه شيء من العسر والشدة التي تضيق بها صدورهم ، ولا تتسع لها قدرهم ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون هناك مانع يمنعهم من مراعاتها ، كما لا يكون لهم عذر إذا تهاونوا فيها ، ولم يقوموا بخدمتها حق القيام ، ما دام قد تحقّق المقتضى للجهاد ، وهو اجتباؤهم ، وانتفى المانع ، وهو الحرج في التكاليف ، وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا بين المشقة في الأحكام الشرعية وبين الحرج والعسر فيها ، فإنّ الأولى حاصلة ، قلما تخلو عنها التكاليف ، فإنّ التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة.
أما المشقة الزائدة التي تصل إلى حد الحرج فهي المرفوعة عن المكلفين فقد فرض الله الصلاة على المكلف في اليوم خمس مرات ، وأوجب عليه أن يؤديها من قيام ، وهذا شيء لا حرج فيه ، ثم هو إذا لم يستطع الصلاة من قيام فله رخصة أن يصلي من قعود ، أو بالإيماء. وكذلك شريعة الصيام لا تصل فيها المشقة إلى درجة العسر ، إذ إن المفروض على الناس صيام شهر في كل عام ، ومع ذلك فقد رخّص الله