الكسب ، وقد يرشّح هذا التفسير قوله تعالى : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص : ٢٦].
وفسّره بعضهم بالحرفة ، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في «المراسيل» والبيهقي في «السنن» وتعقب هذا القول ابن حجر بأنّ العبد إذا لم يكن أمينا أضاع ما كسبه ، فلم يحصل المقصود من كتابته.
وعن قتادة وإبراهيم وابن أبي صالح أنهم فسروه بالأمانة ، وضعّفه ابن حجر أيضا بأنّ المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على سيده ، ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة.
وروي عن علي وابن عباس في رواية ثانية ، وابن جريج ومجاهد وعطاء أنهم فسّروا الخير بالمال ، ولعلّ مرادهم القدرة على كسب المال ، كما هو أحد الأقوال السابقة ، وإلّا فهو ضعيف لفظا ومعنى ، أمّا ضعفه من جهة اللفظ فلأنّه لا يقال : فيه مال ، وإنما يقال : عنده مال أو له مال ، وأما ضعفه من جهة المعنى فلأنّ العبد لا مال له ، وفسّر الحسن الخير بالصلاح ، وهو ضعيف ، لأنّه يقتضي ألا يكاتب غير المسلم ، وقريب منه تفسير بعض الحنفية إياه بألا يضر بالمسلمين بعد العتق.
بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بإنكاح الصالحين من العبيد والإماء أمر جلّ شأنه بكتابة من يطلب الكتابة منهم ، ليكون حرا ، فيتصرّف في نفسه.
وأخرج ابن السكن في سبب نزول هذه الآية (١) عن عبد الله بن صبيح قال : كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى ، فسألته الكتابة فأبى ، فنزل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) إلخ.
وظاهر الأمر في قوله : (فَكاتِبُوهُمْ) أنّه للوجوب ، وبه قال عطاء ، وعمرو بن دينار ، والضحاك ، وابن سيرين ، وداود ، وحكاه بعض الناس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أخذا مما رواه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير (٢) عن أنس بن مالك قال : سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه ، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقبل علي بالدّرة ، وتلا قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) إلخ وفي رواية أنّه قال : كاتبه ، أو لأضربنّك بالدّرة ، وفي أخرى أنه حلف عليه ليكاتبنّه.
وجمهور العلماء على أنّ الأمر في قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) للندب والاستحباب ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» (٣) ولأنّه لا
__________________
(١) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٥ / ٤٥).
(٢) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (١٨ / ٩٨).
(٣) رواه الإمام أحمد في المسند (٥ / ٧٢).