تجري فيما بينهم أيضا ، زيادة في التشنيع عليهم ، وتقبيحا لما كانوا عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير.
والوجه الثاني : أنّ قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) شرط في تصور الإكراه وتحققه ، وليس شرطا للنهي ، وهذا الوجه ضعيف ، لأنّ الإكراه قد يتصوّر إذا لم يردن التحصن ، بأن تكره على زنى غير الذي أرادته ، ولو سلّم أن الإكراه لا يتصور إلا إذا أردن التحصن ، فذكر الإكراه مغني عن هذا القيد.
والوجه الثالث : أن المفهوم اقتضى ذلك الحكم ، وهو جواز الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن ، لكن ذلك الذي اقتضاه المفهوم قد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع.
وإيثار (إِنْ) في قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) على (إذا) لأنّ إرادة التحصن من الإماء كالشأن النادر ، أو للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك ، فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع.
(فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اختلف أهل التأويل في المغفور له من هو ، أهو المكرهون أم المكرهات؟ فأكثر العلماء من السلف والخلف على أنّ المعنى : فإنّ الله من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن ، ويؤيد هذا الرأي قراءة ابن مسعود : (مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ورويت هذه القراءة عن ابن عباس أيضا. وأورد على هذا الرأي اعتراضان :
أولهما : أنه يلزم عليه خلو جملة الجزاء من عائد على اسم الشرط.
وثانيهما : أنه لا إثم عليهن حال الإكراه ، لأنهنّ غير مكلفات ، ولا إثم دون تكليف ، فكيف تعلّقت المغفرة بهن؟
والجواب عن الأول : أن خلو الجزاء عن ضمير اسم الشرط لا محذور فيه ، لأن اللازم لانعقاد الشرطية كون الأول سببا للثاني ، وهو هنا ظاهر ، على أنّ التقدير : فإنّ الله من بعد إكراههم إياهن ، ففاعل المصدر هو العائد ، والمحذوف كالملفوظ.
والجواب عن الثاني : أن تعليق المغفرة بهن إما لأنهنّ وإن كن مكرهات لا يخلو عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلّة البشرية ، وإما لتشديد المعاقبة على المكرهين ، لأنّ الإماء مع قيام عذرهن إذا كنّ بصدد المعاقبة ، حتى احتجن إلى المغفرة ، فما حال المكرهين؟
واختار بعض العلماء أنّ المعنى : أنّ الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم ، أي للمكرهين ، وجعل ذلك مشروطا بالتوبة. وهو تأويل ضعيف لأنّ فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى ، والمقام مقام تهويل وتشنيع على المكرهين.