وقال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠)) [النمل : ٥٠] فأخبر الله أنّه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله.
وكثير من الحيل هذا شأنها ، يمكر بها على الظالم والفاجر ، ومن يعسر تخليص الحق منه ، فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم ، وقهر ظالم ، ونصر حق ، وإبطال باطل ، والله تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن ، ولكن جازاهم بجنس عملهم ، وليعلّم عباده أنّ المكر الذي يتوصّل به إلى إظهار الحق ، ويكون عقوبة للماكر ، ليس قبيحا.
وقد ساق ابن القيم بعد ذلك آثارا ، عن الصحابة ، وأحاديث من السنة ، وأقوالا عن السلف والأئمة ، يتمسك بها القائلون بمشروعية الحيلة ، يطول المقام بذكرها ، فنحيلك على «أعلام الموقعين» (١) إن أردتها.
ثم أخذ يرد على هذا الذي تمسّك به القوم ، فأطال في إبداع ، ونحن نذكر هنا طرفا منه.
قال : ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها ، ونبيّن ما فيه ، متحرّين العدل والإنصاف ، منزّهين لشريعة الله وكتابه وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم عن المكر والخداع والاحتيال المحرم ، ونبيّن انقسام الحيل والطرق إلى ما هو كفر محض ، وفسق ظاهر ، ومكروه ، وجائز ، ومستحب ، وواجب عقلا أو شرعا ، ثم نذكر فصلا نبيّن فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة ، فنقول وبالله التوفيق ، وهو المستعان وعليه التكلان :
أما قوله تعالى لنبيه أيوب عليهالسلام (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) فقال شيخنا : الجواب : أنّ هذا ليس مما نحن فيه ، فإنّ للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين : يعني إذا حلف ليضربنّ امرأته أو عبده مئة ضربة :
أحدهما : قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا ، ثم منهم من لا يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب ، فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق ، وليس هذا بحيلة ، إنما الحيلة بصرف اللفظ عن موجبه عن الإطلاق.
والقول الثاني : أن موجبه الضرب المعروف ، وإذا كان هذا موجبه لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا ، لأنّا إن قلنا : «ليس شرعا لنا مطلقا» فظاهر ، وإن قلنا : «هو شرع لنا» فهو مشروط بعدم مخالفته شرعنا ، وقد انتفى الشرط.
وأيضا فمن تأمّل الآية علم أنّ هذه الفتيا خاصة الحكم ، فإنّها لو كانت عامة الحكم في حقّ كلّ أحد لم يخف على نبي كريم موجب يمينه ، ولم يكن في قصّها علينا كبير عبرة ، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره ، لنعتبر به ، ونستدل به على حكمة الله فيما قصّه علينا.
__________________
(١) انظر أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم بيروت ، دار الجيل (٣ / ٢٩٠ ـ ٤٠٣).