ناشئة الليل ، فإنها خير معين له على تحمّل ما سيرد عليه من الوحي ، وما سيلقى عليه من القول الثقيل. وقيل : إنّ تزمّله عليه الصلاة والسلام كان لأسفه وحزنه لما بلغه ما كان من المشركين ، وما دبّروه من القول السيئ ، يدفعون به دعوته. فقد أخرج البزار والطبراني في «الأوسط» وأبو نعيم في «الدلائل» عن جابر رضي الله عنه قال : اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدّوا الناس عنه. فقالوا : كاهن. قالوا : ليس بكاهن ، قالوا : مجنون. قالوا : ليس بمجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : ليس بساحر. قالوا : يفرّق بين الحبيب وحبيبه ، فتفرّق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فتزمل في ثيابه ، وتدثّر فيها ، فأتاه جبريل عليهالسلام فقال : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١))(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)).
وقد يساعد هذا القول ما ورد في السورة من قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)) على القول بأنّ هاتين الآيتين من المكي ، وأنهما نزلتا مع الآيات السابقة.
غير أنّه يقال : إذا كان هذا هو سبب التزمل ، وأنه من أجله أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم في هذه السورة أن يهجر أولئك ، ويصبر عليهم ، ولا يأبه لقولهم ، فما السبب في أنه لم تذكر الآيتان (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) وما بعدها عقب النداء؟ ولما ذا فصل بين ذلك بالأوامر الأولى المتعلقة بقيام الليل والذكر والترتيل؟
والجواب : أنه لا شك أنّ هذه العبادات تقوّي قلبه عليه الصلاة والسلام ، وتثبّت فؤاده ، وتعينه على الصبر والاحتمال والإغضاء عن السوء من أقوال الكافرين.
وقيل : إنّ السبب هو ما ورد في حديث جابر المشهور (١) على ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي ، فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض ، فجثثت ـ بمثلثتين مبنيا للمجهول ، فزعت ـ منه رعبا ، فرجعت ، فقلت : دثروني ، دثروني» وفي رواية : فجئت أهلي ، فقلت : زمّلوني زمّلوني ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)).
وجمهور العلماء يقولون : وعلى إثرها نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)) وعلى هذا يكون
__________________
(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ١٤٣) ، ١ ـ كتاب الإيمان ، ٧٣ ـ باب بدء الوحي حديث رقم (١٦١) ، والبخاري في الصحيح (٦ / ٩٧) ، ٦٥ ـ كتاب التفسير ، حديث رقم (٤٩٢٢) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ٣٩٩) ، كتاب التفسير ، باب ومن سورة المدثر حديث رقم (٣٣٢٥) ، وأحمد في المسند (٣ / ٣٠٦).