وقد تعلّق بعض الفقهاء بهذه الجملة : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) يستدلون بها على أن المفروض من القراءة في الصلاة ليس سورة معينة ، بل ما يطلق عليه اسم القراءة من أي سورة.
وقبل أن نشرح وجه الدلالة على ذلك ، يلزم أن ننبهك إلى أنّ الاستدلال بها لا يستقيم على الوجه الأول من التفسير ، فإنّ المراد بالقراءة على هذا الوجه حقيقة التلاوة خارج الصلاة ، فلا تعلق لذلك بالموضوع.
وكذلك لا يستقيم على الوجه الثاني فإنّ القراءة عليه لم يرد بها معناها الحقيقي ، بل هي مجاز عن الصلاة كما عرفت ، فالتمسك بها إنما يستقيم على الوجه الثالث.
وذلك أنّه ـ بعد اتفاق الأئمة على أنّ القراءة في الصلاة من فرائضها ـ يقول الحنفية : إنّ الفرض مطلق قراءة آية أو ثلاث آيات ـ على اختلاف القولين بين الإمام وصاحبيه ـ من أيّ سورة من القرآن ، وأنّ الفاتحة غير متعينة للفرضية ، فإذا صلّى بها أو بغيرها فقد حصل ركن القراءة. وذلك لأنّ قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أمر بمطلق القراءة من غير تقييد بفاتحة ولا بغيرها ، ومقتضى هذا الأمر وجوب تحصيل المطلق في أي فرد من أفراده.
قالوا : ويشهد لذلك :
١ ـ ما في «الصحيحين» (١) عن أبي هريرة أنّ رجلا دخل المسجد فصلّى ، ثم جاء فسلّم على النبيّ عليه الصلاة والسلام ، فردّ عليه النبيّ صلىاللهعليهوسلم وقال : ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ ، فصلّى ، ثم جاء فأمره بالرجوع ، فعل ذلك ثلاث مرات ، فقال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره. فقال عليه الصلاة والسلام : «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة ، فكبّر ، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئنّ راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن قائما ، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها».
علمه النبيّ صلىاللهعليهوسلم كيفية الصلاة ، وبين له أركانها وشرائطها ، ولم يعيّن عليه في ذلك قراءة الفاتحة ، بل قال له : «اقرأ ما تيسر معك من القرآن».
فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها له ، وعلمه إياها إن كان يجهلها ، أو وكل به من يعلمه ذلك.
٢ ـ وما روى أبو داود (٢) عن أبي هريرة من قول النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب» فإنّه ظاهر في عدم تعيين الفاتحة.
__________________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه أبو داود في سننه كتاب الصلاة ، باب القراءة حديث رقم (٨١٩).