فلم يبق إلا أن يجمع بين هذه وبين قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).
وذلك أن الرواية على كل حال حديث آحاد لا تناهض القرآن ، ولا تقوى على نسخه ، فلو حملنا قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» على نفي الصحة لزم أن يكون قاضيا على الكتاب ، ناسخا لحكمه ، لأنّ مقتضى الكتاب صحة الصلاة بكل قراءة ، ولو بغير فاتحة الكتاب ، ومقتضى الحديث على ذلك المحمل عدم صحتها ، إلا أن يقرأ فيها بالفاتحة ، وإذا كان الشافعي رحمهالله لا يرى نسخ الكتاب حتى بالحديث المتواتر ، كما نصّ على ذلك في «الرسالة» فيلزم ألا يجيز نسخه برواية الآحاد من باب أولى.
وإذا كانت العبرة في الأمور بمعانيها وحقائقها ، لا بأسمائها وألقابها فتغيير حكم الآية بذلك الحديث ـ على النحو الذي يقول به الشافعية ومن وافقهم ـ تغيير لا يختلف في شيء عن تغيير النسخ وسمّه بعد ذلك بما شئت.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل الحديث على نفي الكمال ، بدليل نصّ الكتاب ، وما جاء في حديث المسيء صلاته ، ويكون قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» نظير قوله عليه الصلاة والسلام : «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وقوله : «لا صلاة للعبد الآبق» فإنّ القرينة الدالة على أنّ المراد نفي الكمال متحققة في الجميع ، وعلى هذا يتم العمل بالقرآن والحديث ، إذ يكون الأول مفيدا أنّ مطلق القراءة فرض في الصلاة. والثاني يفيد أنّ قراءة الفاتحة من الواجبات التي هي دون الفرائض.
وبعد فالعلماء مختلفون أيضا في محلّ القراءة المفروضة :
فالحنفية (١) القائلون بأن الفرض مطلق القراءة يقولون : إنها فرض في ركعتين من الصلوات الرباعية.
أمّا القائلون بأنّ الفرض خصوص الفاتحة ، فمنهم من يقول بفرضيتها في كل ركعة من الصلاة كما هو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك. ومنهم من يقول بفرضيتها في ركعتين كما هي الرواية الأخرى.
ولا نرى أن نعرض هنا لهذه التفاصيل ، ومآخذ الأئمة فيها ، فإنّ مرجع ذلك كله الحديث وكتب الفروع.
(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).
الضرب في الأرض : السير فيها ، والسفر للتجارة والتعيش.
__________________
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ٥٨).