(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) قال بعض المفسرين : هذه الجملة مستأنفة لبيان حكمة أخرى لتخفيف قيام الليل بعد الحكمة الأولى ، وهي عدم القدرة على إحصاء الوقت وتقدير ساعاته ، أي علم أنه سيكون منكم مرضى إلخ كما علم عسر تقدير الأوقات عليكم. ولكنّك ترى أنه كان الظاهر على هذا أن يؤتى بالجملة الثانية (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى). موصولة بالأولى غير مفصولة.
وظاهر كلام الإمام الرازي (١) أن قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) هو الذي يبيّن حكمة النسخ ، وأنه جواب لسؤال تقديري ، فكأنه قيل : لم نسخ الله ذلك؟ فقال : لأنه علم تعذر القيام على المرضى ؛ والضاربين في الأرض ؛ والمجاهدين في سبيل الله.
وهذا التوجيه يدل على أنّ قوله تعالى فيما سبق (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) لا مدخل له في النسخ والتخفيف ، مع أنّ صريح الآية يخالفه ، إذ قد رتب عليه الترخيص بالفاء الدالة على التسبب ، وذلك هو قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).
فالظاهر أنّ قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) قد جاء مجيء التفصيل بعد الإجمال ، فحكمة النسخ واحدة : هي رفع المشقة المترتبة على وجوب القيام الطويل في الليل. أجملت هذه الحكمة في قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ثم فصلت في قوله جلّ شأنه : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) إلخ. فليست هذه لبيان حكمة ثانية للنسخ كما أنها ليست مستقلة بالبيان عن ذلك الإجمال.
بيّن الله تعالى بذلك ثلاثة أشياء ، كلها مقتض للتخفيف على الناس في قيام الليل :
الأول : المرض. فالمريض يصعب عليه طول التهجد ، فإنّ السهر الكثير قد يضاعف علته ويزيد آلامه.
الثاني : الضرب في الأرض للتجارة.
والثالث : الجهاد في سبيل الله.
فإنّ الضاربين للتجارة وابتغاء الرزق ، والمجاهدين في سبيل الله مشتغلون في نهارهم بتلك الأعمال الشديدة ، فلو لم يناموا في الليل نوما يستعيدون به ما فقدوه من قوتهم لضعفوا ، وكلّوا ، وانقطعوا عن كثير من جلائل الأعمال.
قال المفسرون : إنّ في قرن الضرب في الأرض للتجارة بالجهاد في سبيل الله إشارة إلى أنّ الساعين في معايشهم يقاربون في الأجر المجاهدين.
__________________
(١) انظر تفسير مفاتيح الغيب المعروف أيضا بالتفسير الكبير للرازي (٣٠ / ١٨٧).