فرقنا (بَيْنَهُمْ) أي بين المشركين وآلهتهم ، من زيلته بمعنى واحد ، يعني قطعنا ما كان بينهم من الألفة والتواصل في الدنيا ، وذلك حين تبرأ كل معبود من دون الله من عابده (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) أي آلهتهم (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) [٢٨] بطلبتنا في الدنيا ولا نعلم عبادتكم إيانا ، فيقول الكفار بلى (١) كنا نعبدكم بأمركم ، فيقول الأصنام بانطاق الله إياهم (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي كفى الله بنا عالما (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) [٢٩] وما كنا عن عبادتكم إيانا إلا غافلين لعدم عقلنا وسمعنا وبصرنا ، ف «إن» نافية ، واللام بمعنى إلا ، والفائدة في إحضار آلهتهم وإنطاقهم إظهار ضعف معبوديهم عندهم فيزيدهم حسرة على ذلك.
(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))
(هُنالِكَ تَبْلُوا) أي تختبر وتعلم ، بالتاء من البلوى وبتائين من التلو (٢) ، أو (٣) التلاوة ، أي في يوم القيامة تتبع (كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي ما قدمت (٤) من العمل خيرا كان أو شرا كما يختبر الرجل الشيء ويتبعه ليعرف حقيقته أو يقرأ (٥) كل نفس صحيفتها لتعلم ما فيها (وَرُدُّوا) في الآخرة (إِلَى اللهِ) أي إلى حكمه (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي الذي يتولى ويملك أمرهم حقيقة ولا يشكل بقوله (أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ)(٦) ، لأن المعنى فيه من «المولى» الناصر وفي الأول المالك (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي غاب وزال (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [٣٠] في الدنيا من الكذب والشفاعة لهم.
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١))
(قُلْ) للمشركين مستفهما (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) اللذين معكم ، يعني من أعطاكم إياهما وما فيهما من الحكم (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالولد من النطفة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) كالنطفة من الحيوان (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي ومن يفعل ويسوي أمر جميع العالم أو من يرسل الملائكة بالأمر ويقضي (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أي هو يفعل هذه الأشياء كلها لا الأصنام ، لأنه لا عقل ولا فائدة لهم (فَقُلْ) لهم (أَفَلا تَتَّقُونَ) [٣١] عقاب الله فتتركون (٧) الشرك وتؤمنون به (٨).
(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢))
(فَذلِكُمُ) أي فعال (٩) هذه الأشياء (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) الذي لا شك لمن حقق (١٠) النظر فيه ، إنه رب كل شيء (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ) أي فليس هذا (١١) العمل الذي هو الشرك وعبادة غيره بعد ظهور الحق الذي هو الإيمان بالله وطاعته (إِلَّا الضَّلالُ) عن الحق (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [٣٢] أي فمن أين تعدلون عن عبادته وأنتم مقرون بالحق.
(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))
(كَذلِكَ) أي هكذا (حَقَّتْ) أي وجبت (كَلِمَةُ رَبِّكَ) مفردا وجمعا (١٢) هنا وفي آخر السورة (١٣) وفي الزمر (١٤) ، أي حكم ربك الذي سبق في علمه يا محمد (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي ضلوا كفرا (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [٣٣] بفتح «أن» بدل من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) ، أي حق عليهم انتفاء الإيمان في علمه تعالى ، ويجوز أن يكون المراد من
__________________
(١) بلى ، ب س : بل ، م ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ١٥٣.
(٢) «تبلوا» : قرأ الأخوان وخلف بتاءين من التلاوة ، والباقون بالتاء المثناة والباء الموحدة. البدور الزاهرة ، ١٤٤.
(٣) التلو أو ، ب س : ـ م.
(٤) أي ما قدمت ، س : أي قدمت ، ب م.
(٥) يقرأ ، ب م : تقرأ ، س.
(٦) محمد (٤٧) ، ١١.
(٧) فتتركون ، س م : فيتركون ، ب.
(٨) وتؤمنون به ، س : ويؤمنون به ، ب م.
(٩) أي فعال ، ب س : في فقال يفعل ، م.
(١٠) حقق ، س م : حق ، ب.
(١١) هذا ، س م : هذه ، ب.
(١٢) «كلمت» : قرأ المدنيان وابن عامر بألف بعد الميم على الجمع والباقون بحذفها على الإفراد. البدور الزاهرة ، ١٤٤.
(١٣) انظر يونس (١٠) ، ٩٦.
(١٤) انظر الزمر (٣٩) ، ٧١.