(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠))
(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) أي عبرنا بهم منه وهو بحر النيل ، وقيل : بحر قلزوم (١)(فَأَتْبَعَهُمْ) أي فلحقهم ، يقال أتبعه فلان إذا أدركه ولحقه وتبعه واتبعه بالتشديد إذا سار خلفه واقتدى به ، يعني أدركهم (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً) أي ظلما في القول حيث قال (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ)(٢)(وَعَدْواً) أي اعتداء في الفعل حيث قصد قتلهم ، وذلك حين انفلق البحر لموسى وقومه بأمر الله تعالى لموسى أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فصار اثني عشر طريقا يابسا ، فلما وصل فرعون وجنوده إلى البحر هابوا دخوله ، فتقدمهم جبرائيل على فرس وديق ، وخاض البحر فاقتحمت خيولهم خلفه ، فلما دخل آخرهم وهم أولهم أن يخرج انطلق عليهم الماء (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ) أي فرعون (الْغَرَقُ) يعني غمره وقرب هلاكه (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) بالكسر على الاستئناف وبالفتح (٣) مفعول (آمَنْتُ) ، أي إن الشأن (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [٩٠] أي على دينهم الإسلام أو أنا من المخلصين على التوحيد ، كرر الإيمان ثلاث مرات حرصا على القبول ولم يقبل لأنه لم يكن وقت القبول.
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١))
فقال تعالى خطابا لفرعون (آلْآنَ) أي أتؤمن الآن (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) أي قبل هذا الوقت (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [٩١] أي الضالين المضلين ، قيل : إيمان البأس غير مقبول (٤) لقوله (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)(٥) ، وفي توبة البأس خلاف بين العلماء ، والأصح قبولها لانبساط المعرفة السابقة بالإيمان في المؤمن بخلاف الكافر ، فانه لا معرفة له مع ربه حتى ينبسط عن البأس فيرد إيمانه عليه ، روي : أن جبرائيل عليهالسلام أخذ من طينة البحر فدسه في فيه وهو محمول على غضب الله على الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه لا على معنى آخر يروى فيه (٦).
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))
ثم قال تعالى لفرعون (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) من البحر (بِبَدَنِكَ) أي بجسدك لا روح فيه أو بدرعك ، وكان له درع مشهور مرصع بالجواهر (لِتَكُونَ) يا فرعون (لِمَنْ خَلْفَكَ) أي لمن بعدك من الكفار المتمردين (آيَةً) أي عبرة لئلا يدعوا الربوبية ، قيل : لما أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قال بنو إسرائيل ما مات فرعون ، فأمر الله البحر فألقاه ميتا على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور ، فرآه بنو إسرائيل فصدقوا بموته ، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتا أبدا ، فصار عظة للخلق (٧)(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا) وهي هلاك فرعون مع جنوده وإنجاء موسى مع قومه من البحر المغرق (لَغافِلُونَ) [٩٢] أي لا يخافون فيعتبرون.
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))
ثم أخبر عن حال بني إسرائيل بعد هلاك أعدائهم بقوله (وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أي نزلنا (بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي منزل رفق وكرامة ، وهو مصر والشام أو الأرض المقدسة (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي الحلالات من ميراث
__________________
(١) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ١٠٩.
(٢) الشعراء ، (٣٦) ، ٥٤.
(٣) «أنه» : قرأ حمزة والكسائي وخلف بكسر همزة «إنه» ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٥١.
(٤) هذا الرأي منقول عن مفاتيح الغيب ، ١٧ / ١٢٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٧٥ ؛ والبغوي ، ٥ / ٥٥ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٩١.
(٥) غافر (٤٠) ، ٨٥.
(٦) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٢٤.
(٧) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ٢٥.