أهل مصر وأهل الشام (فَمَا اخْتَلَفُوا) أي ما تشعبت (١) اليهود الذين كانوا في عهد النبي عليهالسلام في تصديقه أنه نبي ، فقال بعضهم : هو هو ، وقال : بعض (٢) ليس هو ، وغيروا صفته بعد معرفتهم إياها في كتابهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي القرآن والبيان بأنه صادق ودينه حق ، وكانوا مقرين بنبوته قبل خروجه للرسالة أو ما اختلفوا في دينهم ولم يتفرقوا فرقا فيه حتى جاءهم موسى بعلم التورية ، فاختلفوا من بعد يوشع بن نون ، فآمن بعض وكفر بعض (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [٩٣] من أمر الدين.
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥))
ثم قال خطابا للنبي عليهالسلام والمراد غيره على عادة العرب لعلمه تعالى أنه غير شاك أو خطاب له على سبيل الفرض أو خطاب لكل إنسان شاك ، لأن الناس كانوا في عهده بين شاك وموقن (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) وهو نزل حين قالت كفار قريش إن هذا الوحي يلقى إلى الشيطان (٣) ، فقال تعالى إن كنت في شك منه (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) وهم مؤمنو أهل التورية فيخبرونك أنه مكتوب عندهم في التورية أو قيل : للنبي عليهالسلام هذا على سبيل الفرض ليكون فيه أبلغ ، ولذا قال لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق (٤) ، ثم قال تحقيقا له ذلك (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ) واللام في جواب القسم ، أي والله لقد أتاك الذي لا شك فيه وهو القرآن (مِنْ رَبِّكَ) لا من الشيطان كما قاله الأعداء (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) [٩٤] أي الشاكين في أنه من ربك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي بكتابه ورسله (٥)(فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) [٩٥] أي من المغبونين في دينك.
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) أي وجبت (عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وهو قوله : هؤلاء في النار ولا أبالي (لا يُؤْمِنُونَ) [٩٦] فيموتون كفارا ، لأنه قدر عليهم الكفر (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) أي كل علامة (٦) دالة على التوحيد (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [٩٧] أي الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة.
(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨))
(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ) أي فما كانت جماعة قرية كافرة ، ف «لو لا» كلمة التحضيض في الأصل استعملت هنا للنفي ، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد ، يعني لم يكن قرية من القرى (آمَنَتْ) عند معاينة العذاب (فَنَفَعَها إِيمانُها) في حال البأس (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فالاستثناء متصل ، لأن المراد أهالي القرى فيكون نصبه على أصل الاستثناء من (ما آمَنَتْ) ، ويجوز أن يكون «لو لا» في معناها ، والاستثناء منقطعا من (قَرْيَةٌ) بمعنى لكن قوم يونس (لَمَّا آمَنُوا) وقت بقاء الاختيار والتكليف (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) أي الذل والهوان (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فنفعهم إيمانهم لوقوع إيمانهم في وقت الاختيار لا في حال البأس (٧)(وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [٩٨] أي إلى انقضاء آجالهم واختلفوا في أنهم رأوا العذاب عيانا ، فقال بعضهم وهم الأكثرون رأوا العذاب عيانا بدليل قوله (كَشَفْنا) ، وقال الأقلون رأوا دليل العذاب وهو اسوداد السماء بالغيم المظلم هائلا يدخن (٨) فيه الدخان
__________________
(١) تشعبت ، م : شعبت ، س ، تتشعب ، ب.
(٢) بعض ، ب م : بعضهم ، س.
(٣) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ١١١.
(٤) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١١١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٢٥.
(٥) ورسله ، ب م : ورسوله ، س.
(٦) أي كل علامة ، س : أي علامة ، ب م.
(٧) لا في حال البأس ، ب س : ـ م
(٨) في النسخ التي راجعتها «يدخر» ، وهذا خطأ على ما أظن ، لعل الصواب ما أثبتناه وهو «يدخن» ؛ انظر أيضا البغوي ، ٣ / ١٨٣ ؛ والكشاف ، ٣ / ٢٦.