بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧))
(فَقالَ الْمَلَأُ) أي الذين يملئون القلوب هيبة صفتهم (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) يعني رؤساؤهم (ما نَراكَ) يا نوح (إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) أي آمن بك (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) جمع أرذل وهو الدون من كل شيء ، أي ضعفاؤنا وسفلتنا (بادِيَ الرَّأْيِ) أي أوله بالهمزة بعد الدال من بدأ إذا فعل ابتداء ، أي آمنوا بك من غير تفكر فيك وبترك الهمزة (١) من بدا يبدو إذا ظهر ، أي فيما ظهر لنا أو في وقت ظهور أول رأيهم ، فنصبه على الظرفية ، فحذف الوقت المقدر المضاف وأقيم (بادِيَ) مقامه (وَما نَرى لَكُمْ) خطاب لنوح ومن آمن معه ، أي ما نعتقد لكم (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي زيادة شرف علينا في مال وملك توجب كونكم أهلا للنبوة (٢) ، و (مِنْ) زائدة (٣) ، لأنكم بشر مثلنا تأكلون وتشربون كسائر بني آدم (بَلْ نَظُنُّكُمْ) أي نحسبكم (كاذِبِينَ) [٢٧] في قولكم.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨))
(قالَ) نوح لقومه (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) أي يقين وبصيرة ، يعني على برهان شاهد على صحة دعواي (مِنْ رَبِّي وَآتانِي) أي أعطاني (رَحْمَةً) أي نعمة وهداية وهي الرسالة (مِنْ عِنْدِهِ) إكراما لي (فَعُمِّيَتْ) بالتخفيف معلوما ، أي فخفيت ، وبضم العين والتشديد مجهولا (٤) ، أي فخفيت والتبست بعد البينة (عَلَيْكُمْ) تلك الرحمة (أَنُلْزِمُكُمُوها) استفهام إنكار ، أي أنكرهكم على قبولها ولا إكراه في الدين أو أنحملكم (٥) معرفتها (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) [٢٨] لا تريدونها (٦).
قال قتادة : «لو قدر الأنبياء أن يلزموها قومهم لألزموا ولكن لم يقدروا» (٧) ، إذ لا يقدر على ذلك إلا الله.
(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩))
ثم قال نوح إخبارا عن شفقته وبيانا لقلة طعمه في أموالهم (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ الرسالة وإيمانكم (مالاً) أي أجرا (إِنْ أَجرِيَ) أي ما ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ) ثم قالوا لنوح اطرد المؤمنين بك عنك حسدا عليهم أو لكونهم فقراء ضعفاء ، فقال نوح (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بالله ودينه (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي صائرون إليه في المعاد فيشكونني إلى الله إن لم أقبل منهم الإيمان وأطردهم فيعاقبني لطردي إياهم (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) [٢٩] أي تسفهون على المؤمنين بتسميتهم أرذل الناس أو لا تدركون ما أمرتكم به وهو دين الإسلام ، وما أخبرتكم به من البعث واللقاء.
(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠))
(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي) أي يمنعني (مِنَ اللهِ) أي من عذابه (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) عن مجلسي فيعذبني الله بذلك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [٣٠] أي ألا تتعظون ولا تفهمون (٨) أن من يؤمن بالله لا يطرد.
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ
__________________
(١) «بادي الرأي» : قرأ أبو عمرو بهمزة مفتوحة بعد الدال ، وإذا وقف سكنها ولا إبدال فيها للسوسي لعدم أصالة سكونها ، وأبدل همزة الرأي مطلقا السوسي وأبو جعفر ، وفي الوقف حمزة. البدور الزاهرة ، ١٥٣.
(٢) توجب كونكم أهلا للنبوة ، ب س : ـ م.
(٣) ومن زائدة ، س : ـ ب م.
(٤) «فعميت» : قرأ حفص والأخوان وخلف بضم العين وتشديد الميم ، والباقون بفتح العين وتخفيف الميم. البدور الزاهرة ، ١٥٣.
(٥) أو أنحملكم ، ب س : وأتحملكم ، م.
(٦) لا تريدونها ، س م : لا يريدونها ، ب ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٠٣.
(٧) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٠٣.
(٨) ولا تفهمون ، ب س : ولا يفهمون ، م.