جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢))
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أي مفاتيح رزقه فادعى الفضل عليكم بالغنى (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي ولا أقول لكم أعلم ما غاب عني وعنكم بالادعاء حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا (وَلا أَقُولُ) أي ولا أحكم (لِلَّذِينَ تَزْدَرِي) أي على الذين تحتقرهم (أَعْيُنُكُمْ) من الضعفاء (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي إيمانا وتوفيقا لجهلي بحالهم كما تقولون نزولا على هواكم ومساعدة لكم ، يعني لا أدعي ما ليس عندي علمه (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) من التصديق والإنكار (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [٣١] أنفسهم إن قلت شيئا من ذلك أو إن طردتهم ولم أقبل منهم الإيمان بسبب جهلي بما في قلوبهم ، فلما عجز قومه عن جواب نوح (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) أي خاصمتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) أي زدت بالقول خصامنا ، يعني غلبتنا بدعائنا وموعظتنا ونحن لا نقبلها (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب المعجل (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [٣٢] بأن العذاب ينزل علينا.
(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣))
(قالَ) لهم نوح (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي ما يأتيكم بالعذاب إلا (اللهُ إِنْ شاءَ) أن يعذبكم (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [٣٣] أي بفائتين من عذابه إن شاء تعذيبكم.
(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤))
(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) أي نصيحتي ووعظي (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) لتستغفروا من الشرك فتؤمنوا (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي يضلكم ويهلككم على الضلالة (هُوَ رَبُّكُمْ) أي خالقكم ومتصرفكم كيف يشاء ، ليس له شريك في خلقه ، له الحكم ، أي الأمر كله له في الهداية والضلالة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [٣٤] فيجزيكم بأعمالكم بعد الموت والبعث ووجه ترادف الشرطين : إن الشرط الثاني جزاؤه ما دل عليه (لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) فهو في حكم الجزاء توسعا ، فوصل بالشرط الثاني فهذا الشرط مع جزائه يكون في حكم جزاء الشرط المقدم عليه وكذلك الحكم في كل شرط إلى أن ينتهي الشروط السابقة ، فلو قال رجل لامرأته أنت طالق إن كلمت زيدا إن دخلت الدار إن أكلت خبزا كان تقديره : إن أكلت خبزا أنت طالق ، فلو كلمت ثم دخلت ثم أكلت لم تطلق ، لكن إن أكلت ثم دخلت ثم كلمت طلقت ، فيكون تقدير الآية أيضا : إن كان الله يريد أن يغويكم ، فان أردت أن أنصح (١) لكم لا ينفعكم نصحي ، فمثل هذه التعليقات حكمها أن يتقدم المؤخر ويتأخر المقدم في الوقوع كما عرفته.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))
ثم قالوا إنه افترى من نفسه التوحيد والدعوة إليه ما أرسل لتبليغه ، فقال تعالى لنوح عليهالسلام بالاستفهام للتقرير وبزيادة الميم (٢)(أَمْ يَقُولُونَ) أي قوم نوح (افْتَراهُ) أي اختلقه نوح (قُلْ) لهم يا نوح (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) من ذات نفسي (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي عقوبة افترائي (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) [٣٥] أي مما تتأثمون في إسناد الافتراء إلي لإعراضكم ومعاداتكم ، وقيل : «هو خطاب لأهل مكة» (٣) في تكذيب النبي عليهالسلام.
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))
قوله (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) إقناط له من إيمان قومه سوى من آمن به ، فدعا عليهم عند ذلك (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)(٤) ، ثم قال تعالى له بعد ندامته على دعائه وتحزنه عليهم (فَلا تَبْتَئِسْ) أي فلا تحزن يا نوح (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) [٣٦] أي بسبب فعلهم من تكذيبك وإيذائك
__________________
(١) أنصح ، س م : النصح ، ب.
(٢) بالاستفهام للتقرير وبزيادة الميم ، ب س : ـ م.
(٣) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٢٥.
(٤) نوح (٧١) ، ٢٦.