فقد حان وقت الانتقام لك منهم ، قيل : «إن قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلفون في لبد ويلقونه في بيت ، يظنون أنه قد مات فيخرج إليهم في اليوم الثاني ، ويدعوهم إلى الله تعالى» (١).
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧))
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي بحفظنا ، وهو في موضع الحال ، يعني اصنعها محفوظا أنت من أن تزيغ في صنعتك عن الصواب وأن لا يحول بينك وبين عملك أحد من أعدائك ، وقيل : «بمنظر منا» (٢)(وَوَحْيِنا) إليك صنعها ، وقيل : «بتعليمنا إياها لك» (٣) ، قيل : لما أمر بعمل الفلك لم يعلم كيف يصنعه فأوحى الله إليه أن اصنعها كجؤجؤ الطائر وهو عظم الصدر منه فأخذ القدوم وجعل يضرب ولا يخطئ» (٤)(وَلا تُخاطِبْنِي) أي لا تراجعني الكلام (فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي في إهلاك الكفار من قومك وابنك كنعان وامرأتك (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [٣٧] أي محكوم عليهم بالغرق.
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨))
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) حكاية حال ماضية ، قيل : أمر الله نوحا أن يغرس الأشجار ، فغرسها أربعين سنة حتى أدركت ، وقطعها وجففها أربعين سنة ، ثم اتخذ منها السفينة ثلاثين سنة ، واستأجر أجراء ينحتون معه (٥) ، والواو للحال في (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ) أي جماعة (مِنْ قَوْمِهِ) يعني أشرافهم (سَخِرُوا مِنْهُ) أي استهزؤا به ومن عمله السفينة من مكان بعيد من الماء ، وهو جواب (كُلَّما) ، وقالوا يا نوح : إنك كنت تزعم أنك نبي والآن صرت نجارا بعد النبوة ، ثم استأنف بقوله (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) اليوم (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) عند هلاككم بالغرق أو عند البعث يوم القيامة (كَما تَسْخَرُونَ) [٣٨] الآن منا ، وهذا من ازدواج الكلام ، إذ لا يجوز من الأنبياء السخرية.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) من أحق بالسخرية ، وهو وعيد لهم ، ثم أكده بقوله (٦)(مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ) وهو الغرق (يُخْزِيهِ) أي يهلكه (وَيَحِلُّ) أي ويجب (عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) [٣٩] أي دائم ، وهو عذاب الآخرة ، فصنعها من خشب الساج ، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وارتفاعها ثلاثين ذراعا ، وكانت ثلاث طبقات ، السفلى للسباع والهوام والوحوش ، والوسطى للدواب والأنعام ، والعليا للإنس وما يحتاج إليه من الزاد ، وطلاها بالقير (٧).
__________________
(١) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٢٠٦.
(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٢٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٠٧ (عن ابن عباس).
(٣) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٢٥ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٠٧.
(٤) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٣ / ٣٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٢٠٧.
(٥) اختصره المصنف من السمرقندي ، ٢ / ١٢٦ ؛ والبغوي ، ٣ / ٢٠٨.
(٦) ثم أكده بقوله ، ب س : ـ م.
(٧) وهذه الرواية مأخوذة عن التورية ، انظر تكوين ، ٦ / ١٥ ـ ١٦. وقال فخر الدين الرازي : «واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني ، لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلا ، وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح ، والذي نعلمه أنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان ، لأن هذا القدر مذكور في القرآن ، فأما غير ذلك القدر فغير مذكور.» انظر مفاتيح الغيب ، ١٧ / ١٧٩. وقال أبو حيان : «واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول وفي مقدار مدة عملها وفي المكان الذي عملت فيه ومقدار طولها وعرضها على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء.» انظر البحر المحيط ، ٥ / ٢٢١. وقال ابن كثير : «ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا إلى غير ذلك من الهذيانات التي لو لا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها وركاكتها. ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول. «انظر البداية والنهاية ، ١ / ١٠٧.