(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦))
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) أي فوضت أمري إليه ، وصفه (١)(رَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي خالقي وخالقكم (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ) أي ما حيوان يتحرك في الأرض إلا الله (٢)(آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي قادر ومالك يتصرف في كل دابة بالإحياء والإماتة وهو يرزقها في ملكه ، وذكر الناصية ليدل على أنه تعالى يقهر كل دابة بسهولة ، ويقال ناصية فلان بيد فلان إذا كان محكوما له بالمذلة (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٥٦] فهو يدعوكم إليه وهو دين الإسلام بارسالي إليكم فآمنوا به.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧))
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فان تتولوا (٣) ، يعني إن تعرضوا (٤) عن الإيمان به (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أي فلا أعاتب بعد تبليغي إياكم ما أمرت به من الرسالة فلم يبق لي عذر بعده حتى ألام عليه ، وهذا التقدير يدفع قول من قال الإبلاغ كان قبل التولي ، فكيف وقع جزاء للشرط ، ثم قال مستأنفا (وَيَسْتَخْلِفُ) بالرفع ، أي يستبدل (رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) إن شاء ، يعني خيرا منكم وأطوع له تعالى (وَلا تَضُرُّونَهُ) أي لا تنقصون من ملكه (شَيْئاً) إن لم تؤمنوا (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [٥٧] أي لا يغيب عنه شيء يحفظني ويجازي كلا بعمله (٥).
(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨))
(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) في الدنيا وهم كانوا أربعة آلاف من الذكور والإناث (بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ) في الآخرة (مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [٥٨] أي شديد بسبب الإيمان كما نجيناهم من العذاب في الدنيا بسببه وهو الريح التي أهلك بها عادا ، قيل : «إن الله تعالى بعث عليهم ريح السموم وكانت تدخل في آذانهم وأنوفهم ويخرج (٦) من أدبارهم فيقطعهم عضوا عضوا» (٧).
(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩))
قوله (وَتِلْكَ عادٌ) إشارة إلى آثار قوم هود المهلكين في طريق الشام ، أي تلك الآثار آثار عاد يا أهل مكة (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي علامات توحيده (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) أي هودا وحده ، وذكره بلفظ الجمع ، لأن من كذب رسولا كان كمن كذب جميع الرسل (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [٥٩] أي معاند معرض عن الحق ، قيل : الجبار الذي يضرب ويقتل عند الغضب والعنيد الذي لا يقول الحق ولا يقبله من القائل وإن عرفه (٨) ، المعنى : أنهم عملوا بقول المبطل وأعرضوا عن قول المحق ، هذا هو جرمهم.
(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))
قوله (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي وألحقوا في الحيوة الدنيا العذاب وهو الريح العقيم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وألحقوا في الآخرة لعنة أخرى وهي عذاب النار إلى الأبد (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) تنبيه لكفار مكة على أنهم جحدوا نعمة ربهم وهي (٩) دين الإسلام فأهلكوا بذلك ، ثم عقبه بتنبيه آخر بقوله (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) [٦٠] أي إلا سحقا وخزيا لهم من رحمة الله ، وهم قوم هود ، وهو عطف بيان بعد البيان كقوله (أَخاهُمْ هُوداً)(١٠) لقطع مادة الشبهة بوجه كلي ، لأنهم عاد الأولى والثانية عاد إرم وهم قوم صالح ، والبعد يستعمل بضد القرب ،
__________________
(١) وصفه ، ب س : ـ م.
(٢) أي ما حيوان يتحرك في الأرض إلا الله ، ب س : ـ م.
(٣) أي فان تتولوا ، ب س : ـ م.
(٤) أي إن أعرضتم ، م : يعني إن أعرضوا ، ب س.
(٥) بعمله ، ب م : بعلمه ، س.
(٦) ويخرج ، ب م : تخرج ، س.
(٧) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ٤٤.
(٨) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ١٣١.
(٩) وهي ، ب م : وهو ، س.
(١٠) الأعراف (٧) ، ٦٥ ؛ وهود (١١) ، ٥٠.