وأجمعهم ورددت عليهم أملاكهم (١).
روي : أن يوسف كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام ، فقيل له أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال : إن شبعت نسيت الجائع (٢).
ثم قصد الناس مصر من كل ناحية وبلد يمتارون ، ووقع القحط في كنعان أكثر مما وقع في سائر البلاد من الشام ، فأرسل يعقوب بنيه إلى مصر للميرة فأمسك عنده بنيامين أخا يوسف لأمه ، وقال لهم : بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام ، فتجهزوا وسيروا لتشتروا منه الطعام ، فان الحاجة قد اشتدت علينا ، فأخذوا بضاعة من أبيهم فذهبوا إلى مصر ، فذلك قوله تعالى (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) وكانوا عشرة (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) يوسف بأول ما نظر إليهم (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [٥٨] أي لم يعرفوا يوسف لبعد عهدهم وذهابه عن قلوبهم وشدة جوعهم ، ولأنه كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملوك وفي عنقه طوق من ذهب بخلاف ما كانوا رأوه في الصغر ، قال ابن عباس : «كان بين أن قذفوه في البئر وبين دخلوا عليه أربعون سنة ، فلذلك أنكروه» (٣) ، فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية قال لهم يوسف : أخبروني من أنتم وما أمركم؟ فاني أنكر شأنكم لتكلمهم بلسان غريب في مصر ، قالوا : نحن قوم رعاة من أهل الشام ، أصابنا الجهد فجئنا نمتار طعاما ، فقال : لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟ قالوا : لا والله ما نحن بجواسيس ، وإنما نحن إخوة أب واحد شيخ صديق نبي من أنبياء الله تعالى ، قال : وكم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر ، فذهب واحد معنا إلى البرية فهلك فيها وكان أحبنا إلى أبينا ، فقال : فكم أنتم هنا؟ قالوا : أحد عشر ، قال : فأين الآخر؟ قالوا : عند أبينا ، لأنه أخو الذي هلك من أمه وأبونا يتسلى به ، قال : فمن يعلم أن قولكم حق؟ قالوا : يا أيها الملك نحن في بلاد لا يعرفنا فيها أحد ، فقال يوسف : اتركوا بعضكم رهنا عندي وآتوني بأخيكم من أبيكم حتى أصدقكم فأنا أرضي بذلك ، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون ، فتركوه عنده ، وكان يوسف يحسن إليه (٤).
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩))
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي أصلحهم بما يحتاجون إليه في السفر ، وقيل : حمل لكل رجل بعيرا بعدتهم على عادتهم في القحط (٥)(قالَ) يوسف (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) أي بنيامين (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي أتمه ولا أبخس الناس شيئا (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [٥٩] أي أفضل من يضيف الضيف إذا نزل بي ، وقد كان أحسن إنزالهم وضيافتهم.
(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١))
(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) أي بأخيكم من أبيكم (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي ليس لكم عندي طعام أكيله ، يعني تحرموا من الطعام (وَلا تَقْرَبُونِ) [٦٠] يجوز أن يكون داخلا تحت الجزاء مجزوما بالعطف عليه ، ويجوز أن يكون مجزوما على النهي ، أي لا تقربوا داري وبلادي ، فاني لا أكرمكم ولا أنظر إليكم (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنجتهد بطلبه عن أبيه حتى ننزعه من يده (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) [٦١] ما أمرتنا به.
(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))
(وَقالَ) يوسف (لِفِتْيانِهِ) بالألف والنون المكسورة ، جمع فتى جمع كثرة ، ولفتيته بالتاء (٦) من غير ألف جمع قلة ، أي لغلمانه الكيالين (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) أي أثمان ما أخذوه (فِي رِحالِهِمْ) جمع رحل ، أي في أوعيتهم ،
__________________
(١) اختصره من البغوي ، ٣ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.
(٢) نقله عن البغوي ، ٣ / ٢٩٧.
(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٢٩٨.
(٤) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٢٩٨.
(٥) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٢٩٩.
(٦) «لفتيانه» : قرأ حفص والأخوان وخلف بألف بعد الياء ونون مكسورة بعد الألف ، والباقون بحذف الألف بعد الياء وبتاء مكسورة بعد الياء. البدور الزاهرة ، ١٦٥.