قيل : أراد أن يحلفوا له بالله عزوجل (١)(لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم ، أي لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله أنكم تردونه إلي (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) استثناء منقطع ، أي لكنكم تهلكون جميعا بسبب أو لكنكم تغلبون فلا تطيقون الاتيان به أو متصل ، أي تأتوني به في كل حال إلا في حال الإحاطة بكم بأن ينزل بكم أمر من السماء أو من الأرض فيعذركم أو مفعول له ، والكلام المثبت في تأويله النفي ، أي لا يمتنعون من الاتيان به إلا للإحاطة بكم فضاق عليهم الأمر ، فحلفوا كما أراد أبوهم (فَلَمَّا آتَوْهُ) أي أعطوه (مَوْثِقَهُمْ) أي عهدهم المؤكد (قالَ) يعقوب (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) [٦٦] أي شاهد وحافظ.
(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧))
(وَقالَ) لهم وقت الخروج من عنده (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) إذا دخلتم مصر ، وقيل : من سكك مختلفة (٢) ، قاله لئلا يصابوا بالعين ، وليس ذلك كالطيرة المنهية لأن النبي عليهالسلام كان يرقي من العين (٣) ، لأن العين حق لما أنهم أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامة (٤) ، وقيل : يجوز أن يحدث الله عزوجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصانا فيه ، ويكون ذلك ابتلاء من الله لعباده وليتميز المحقون بقولهم هذا من فعل الله عمن قال هذا أثر العين (٥) ، وهو قول المعتزلة ، وبطلانه ظاهر لصحة الحديث في تأثير العين (٦) ، وقيل : إنما قاله يعقوب لئلا يظن أهل مصر أنهم جواسيس (٧) ، ولم يوصهم في الكرة الأولى بالتفرقة ، لأنهم كانوا مجهولين بين الناس ، ثم اشتهرهم أهل مصر بالقربة (٨) عند الملك والتكرمة الخاصة ، ثم قال (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ) أي لا أنفعكم من قضائه إن أراد بكم سوء (مِنْ شَيْءٍ) سواء كنتم مجتمعين أو متفرقين ، لأن المقدر (٩) كائن (إِنِ الْحُكْمُ) أي ما القضاء (إِلَّا لِلَّهِ) إن شاء أصابكم العين وإن شاء لم يصبكم ، وهذا تفويض يعقوب أمورهم إلى الله مع التأكيد بقوله (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي اعتمدت في كل حال لي (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [٦٧] أي الواثقون بالله.
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من السكك أو الأبواب المتفرقة ، وكانت أربعة ، وجواب (لَمَّا) محذوف وهو امتثلوا أمره أو الجواب (ما كانَ) يعقوب برأيه (يُغْنِي) أي يدفع (عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) يعني أصابهم ما شاءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بها وأخذ أخيهم بوجدان الصاع في رحله ، فلم ينفعهم رأيه وهو تصديق الله يعقوب فيما قال (إِلَّا حاجَةً) استثناء منقطع على معنى (لكِنَّ) حاجة ومرادا (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي أظهرها لهم وتكلم (١٠) بها وهي شفقته عليهم إشفاق الآباء على الأبناء (وَإِنَّهُ) أي يعقوب (لَذُو عِلْمٍ) أي كان يعمل ويقول عن علم لا عن جهل (لِما عَلَّمْناهُ) أي لتعليمنا إياه أنه لا يصيبهم إلا ما أراد الله وقدره ، وعلم أيضا أن دخولهم من أبواب متفرقة لا ينفعهم من قضاء الله من شيء (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [٦٨] ما يعلم يعقوب ، لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه» (١١).
__________________
(١) نقله عن الكشاف ، ٣ / ٨٥.
(٢) أخذ هذا المعنى عن السمرقندي ، ٢ / ١٦٩.
(٣) وهذا منقول عن السمرقندي ، ٢ / ١٦٩.
(٤) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣٠٣.
(٥) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٨٦.
(٦) وهذا الحديث : «العين حق». رواه البخاري ، الطب ، ٣٦ ، واللباس ، ٨٦ ؛ ومسلم ، السّلام ، ٤١ ، ٤٢.
(٧) هذا الرأي مأخوذ عن السمرقندي ، ٢ / ١٦٩.
(٨) بالقربة ، ب م : بالقربية ، س.
(٩) المقدر ، م : المقدور ، ب س.
(١٠) وتكلم ، ب س : ويكلم ، م.
(١١) انظر البغوي ، ٣ / ٣٠٤.