بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))
(كَذلِكَ) أي مثل ذلك إرسالنا الرسل قبلك يا محمد (أَرْسَلْناكَ) إرسالا له فضل على سائر الإرسالات (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِها) أي قبل تلك الأمة (أُمَمٌ) كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الرسل (لِتَتْلُوَا) أي لتقرأ (عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن العظيم (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي يجحدون بالله البليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء ، ويكذبونه ويقولون : ما نعرف الرحمن إلا مسليمة الكذاب.
قيل : الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية (١) ، والمعروف أن الآية مكية ، وسبب نزولها : أن أبا جهل سمع النبي عليهالسلام وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن ، فرجع إلى المشركين وقال : إن محمدا يدعو إلهين ، يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمي الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ، ونزل (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)(٢) الآية (٣) ، وقيل : نزلت هذه الآية في كفار قريش حين قال لهم النبي عليهالسلام اسجدوا للرحمن! قالوا : وما الرحمن؟ (٤) فقال تعالى (قُلْ) يا محمد (هُوَ) أي الرحمن الذي كفرتم به (رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي اعتمدت (وَإِلَيْهِ مَتابِ) [٣٠] أي توبتي ومرجعي في الآخرة.
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))
قوله (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) نزل حين طلب المشركون في مكة ، منهم أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وغيرهما جالسين خلف الكعبة من النبي عليهالسلام إزالة جبال مكة ، فقالوا : يا محمد سير جبالنا بالقرآن الذي تقرأ حتى تنفسح مكة ، فانها أرض ضيقة لمزارعنا ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا لنغرس الأشجار ونتخذ البساتين كما فعل الله لسليمان الريح ، وسخر الجبال لداود يسبحن معه ولست بأهون على ربك من سليمان وداود ، ثم قالوا : وأحي لنا جدك قصيا أو من شئت من موتانا لنسأله عن أمرك ، أحق ما تقول أم باطل كعيسي ، فانه يحيي الموتى ويظهر به صدقه (٥) ، فقال تعالى ولو سيرت الجبال بقرآن عن أماكنها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) لتصديق نبي من الأنبياء ، وجواب (لَوْ) محذوف ، وهو لكان هذا القرآن أو لكفروا بالرحمن بدلالة قوله (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أو لم يؤمنوا به لما سبق من علمنا فيهم (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ) أي أمر خلقه (جَمِيعاً) فيتصرف فيهم كما يشاء من الهداية والضلالة لا راد لحكمه ، قوله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) أي ألم يخبر بالوحي عليك فلم يعلم (الَّذِينَ آمَنُوا) نزل حين سمع المؤمنون سؤال المشركين من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وطمعوا أن يفعل الله ما سألوا فيؤمنوا (٦) ، فقال تعالى ألم يتبين للمؤمنين ، يعني للصحابة من إيمان هؤلاء الذين وصفوا بأنهم لا يؤمنون (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) فآمنوا يعني أنهم ليسوا أهلا لذلك فلم يهدهم (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من كفرهم وسوء أعمالهم (قارِعَةٌ) أي داهية تقرعهم من أنواع البلاء أحيانا بالجدب وأحيانا بالسلب وأحيانا بالقتل والأسر أو المراد سرية من سرايا رسول الله يبعثها فيأتيهم وتصيبهم منهم شدة (أَوْ تَحُلُّ) أي تنزل القارعة أو أنت يا محمد (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) يعني من مكة بجماعة أصحابك (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) أي الفتح والنصرة لظهور الرسول عليهالسلام ودينه ، وقيل : يوم القيامة (٧)(إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [٣١] أي لا يفعل كل ما وعد من فتح مكة وغيره.
__________________
(١) عن قتادة ومقاتل وابن جريج ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٥٥.
(٢) الإسراء (١٧) ، ١١٠.
(٣) أخذه المصنف عن البغوي ، ٣ / ٣٥٦.
(٤) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٢٣٠ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٥٦.
(٥) عن زبير ابن العوام ، انظر الواحدي ، ٢٣١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٥٧.
(٦) وهذا مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٣٥٨.
(٧) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٥٨.