(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢))
وكان الكفار يسألون عن هذه الأشياء منه عليهالسلام على سبيل الاستهزاء ، فأنزل الله تسلية لنبيه عليهالسلام (١)(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزئ بك (فَأَمْلَيْتُ) أي أمهلت وأطلت لهم (٢) المدة (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بعد الاستهزاء ولم أعاقبهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي عاقبتهم بعد الإمهال في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) [٣٢] أي عقوبتي بهم وتغييري عليهم بالعذاب ولم ير النبي عليهالسلام ذلك إلا أنه علم بحقيقته بأعلام الله ، فكأنه رأى عيانا ، قيل : إنه تعجيب من شدة أخذه لهم (٣).
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣))
ثم احتج على هؤلاء المشركين موبخا بالاستفهام بقوله (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) أي رقيب وهو الله تعالى (عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من صالح أو طالح يحفظها ويرزعها ويجازيها بما عملت ، وجوابه مضمر ، وهو كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه وعن ذرة ، وهذا كقوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٤) ، ثم أخبر عنهم مع هذا الحال ، فقال تجهيلا لهم وتعجيبا منهم (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) عاجزين عن النفع والضر (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي بينوا الشركاء بأسمائهم وصفاتهم ، ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد (٥) أم لا (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) أي بل تخبرون الله (بِما لا يَعْلَمُ) أي بشيء لا يعلم من آلهتهم (فِي الْأَرْضِ) وهو محال ، فانه يعلم أنه ليس لها قدرة في الأرض ويعلم أن ليس له شريك فيها (أَمْ) أي بل تخبرون (بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له ، يعني أتقولون قولا بلا برهان؟ فهو أدنى من أن يتعلق به العلم فيتعلق به الجهل لقيام البرهان القطعي على خلاف ذلك ، وهو تنزيه عن الشريك الموجب لتوحيده ، فليس لهم حجة على قولهم (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (مَكْرُهُمْ) أي كيدهم وهو قولهم بالشرك عن جهل (وَصُدُّوا) مجهولا ، أي منعوا والمانع الشيطان ، ومعلوما (٦) ، أي هم منعوا الناس (عَنِ السَّبِيلِ) أي عن دين الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بخذلانه إياه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [٣٣] أي مرشد إلى دينه غير الله.
(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))
(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر بكفرهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) أي أشد من عذاب الدنيا (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [٣٤] أي من جهته أو رحمته مانع يحفظهم ويمنعهم من العذاب.
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥))
ثم أخبر تعالى عما أعد للمتقين في الآخرة فقال (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) من الشرك والمعاصي رفعه بالابتداء عند سيبويه ، خبره محذوف ، تقديره : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة ، وقال غيره الخبر (تَجْرِي) أي صفة الجنة تجري (٧)(مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وقيل : المثل مقحم (٨) ، وقيل تقديره : «مثل الجنة جنة تجري» (٩) ، حذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد (أُكُلُها) أي ما يؤكل فيها من الثمر وغيره (دائِمٌ) لا ينقطع (وَظِلُّها) دائم أيضا لا يزول بزوال الشمس ، إذ ليس فيها شمس (تِلْكَ) أي الجنة (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي
__________________
(١) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٣٥٨.
(٢) لهم ، م : ـ ب س.
(٣) هذا القول مأخوذ عن الكشاف ، ٣ / ١٠٨.
(٤) النحل (١٦) ، ١٧.
(٥) لأن تعبد ، س م : أن تعبد ، ب.
(٦) «وصدوا» : قرأ الكوفيون ويعقوب بضم الصاد والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٧١.
(٧) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٠٨.
(٨) وهذا الرأي مأخوذ عن البيضاوي ، ١ / ٥٠٩.
(٩) عن الزجاج ، انظر الكشاف ، ٣ / ١٠٨.