منهم بأنهم على الحق ، فلا يعذبون أو استنصر كلا الفريقين فنصر المؤمنون (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [١٥] أي خسر عند نزول العذاب كل متكبر عن الإيمان معاند للحق ومجانبه ، قيل : «الجبار الذي يجبر الغير على مراده ، والعنيد الذي يعدل عن القصد» (١) أو «يأبى عن قول لا إله إلا الله» (٢) ، ووصف حاله بقوله (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي قدامه أو بعد موته جهنم معدة له في الآخرة يلقي فيها (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) [١٦] أي مما يسيل من جلود أهل النار وفروج الزناة ، ف (صَدِيدٍ) عطف بيان ل (ماءٍ).
(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))
(يَتَجَرَّعُهُ) أي يتحساه (٣) جرعة جرعة لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته يتردد في حلقه لكراهته (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي لا يقارب أن يبتلعه (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي ألم الموت من جميع جهاته الست من قدماه وخلفه وفوقه وتحته وعن يمينه وشماله ، وقيل : «من كل مكان من جسده» (٤) ، روي : أن من شعره وعرقه وجلده وأصابعه يديه ورجليه يجد مرارة الموت (٥)(وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فيستريح (وَمِنْ وَرائِهِ) أي بعد الصديد له (عَذابٌ غَلِيظٌ) [١٧] أي شديد لا يفتر أو هو الخلود في النار أو هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد ، قيل : «تعلق نفسه عند حنجرته ولا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها في جوفه فينفعه الحيوة» (٦) كقوله تعالى (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)(٧).
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))
ثم بين كيفية أعمالهم الخير وعاقبتها فقال (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وهو مبتدأ ، خبره محذوف ، أي صفة أعمالهم الخير في الدنيا فيما نقص عليك ، والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة (أَعْمالُهُمْ) مبتدأ وخبره (كَرَمادٍ) والجملة بيان لل (مَثَلُ) ، ويجوز أن يكون (مَثَلُ) مبتدأ و (أَعْمالُهُمْ) بدلا منه بدل اشتمال ، و (كَرَمادٍ) خبر ال (مَثَلُ) ، والمعنى : أعمال الذين كفروا بالله الذي هو خالقهم يوم القيامة يشبه رمادا (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) وقرئ «الرياح» (٨) ، أي قويت عليه فذرته (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي شديد ريحه ، والعصوف صفة (الرِّيحُ) حذفت ووصف اليوم به مجازا ، يعني لا ينتفع الكفار في الآخرة بأعمالهم الصالحة في الدنيا من صلة الرحم وإكرام الضيف وفك الأسير وغير ذلك من خيراتهم وإنما هي كرماد هبت عليه الريح الشديدة ففرقته إلى جوانب الأرض لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به ، والمراد منه بيان إحباط الله ثواب أعمالهم الصالحة يوم القيامة (لا يَقْدِرُونَ) أي الكفار (مِمَّا كَسَبُوا) في الدنيا (عَلى شَيْءٍ) أي على أثر من ثوابها في الآخرة كما لا يقدر على شيء من الرماد المفرق بالريح القوية (ذلِكَ) أي بعدهم عن ثواب أعمالهم أو عن طريق الحق (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) [١٨] الذي لا يدرك غايته فيرجى الخلوص منه.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩))
ثم شرع في توضيح بعدهم في الضلالة وعظم خطئهم في الكفر بالله لوضوح الايات الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة بقوله (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم يا محمد (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وقرئ «خالق»
__________________
(١) ذكر مجاهد نحوه ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٠٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٧٠.
(٢) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٧٠.
(٣) ويشربه ، + م.
(٤) ذكر إبراهيم نحوه ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٧١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٠٣.
(٥) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٠٣.
(٦) عن جريح ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٧١.
(٧) طه (٢٠) ، ٧٤.
(٨) «الريح» : قرأ المدنيان بفتح الياء وبعدها ألف علي الجمع وغيرهما باسكان الياء وحذف الألف علي الإفراد. البدور الزاهرة ، ١٧٢.