عنه بالإخلاص تصعد أول الليل والنهار وأوسطهما وآخرهما (١) ببركة إيمانه لا ينقطع أبدا بل يتصل إليه في كل وقت ، والسر في تمثيل كلمة الإيمان بالشجرة هو أن الشجرة لا يكون شجرة إلا بثلثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم وفرع عال ، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلثة أشياء تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان ، ثم قالوا الحكمة في تشبيه الكلمة المعهودة بالنخلة من بين سائر الأشجار أن النخلة أشبه الأشجار بالإنسان ، لأن النخلة إذا قطع رأسها يبست ، وسائر الأشجار يتشعب (٢) من جوانبها بعد قطع رؤسها ، ولأنها لا تحمل إلا باللقاح ، ولأنها خلقت من فضلة طيبة آدم عليهالسلام ، ولذلك قال رسول الله عليه وسلم : «أكرموا عمتكم ، قالوا : ومن عمتنا؟ قال : النخلة» (٣)(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتصوير للمعاني (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [٢٥] أي يتعظون بالتفكر في الأمثال ويؤمنون.
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦))
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) أي كلمة الشرك (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) وهي الحنظل أو الثوم أو الكشوث ، يعني العشقة (اجْتُثَّتْ) أي اقتلعت واستؤصلت (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) [٢٦] أي ليس لها عرق ثابت راسخ فيها ولا فرع صاعد نحو السماء تجيء بها الريح فتذهب بها من مكانها ، فكذلك كلمة الكفر من الكافر لا أصل لها من الحجة في الخير ولا فرع لها من الأعمال الصالحة لتصعد إلى الله فتقبل فتضمحل عن قريب لبطلانها.
(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))
(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) في دينه القيم (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) أي بقول لا إله إلا الله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي قبل الموت وتثبيتهم به أنهم إذا ابتلوا ببلاء من البلايا ثبتوا في دينهم ولم يرتدوا عنه ولو عذبوا بأنواع العذاب كالأنبياء المتقدمين والصالحين من كل أمة أو عند النزع أو عند السؤال في القبر حين يقال للمؤمن : من ربك وما دينك وما نبيك؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد عليهالسلام أو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (وَفِي الْآخِرَةِ) أي يثبتهم على ذلك القول بعد الموت في القبر أو عند البعث بأنهم إذا سئلوا عن أعمالهم أجابوا من غير تحير ودهش من أهوال يوم القيامة (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) بالكفر والمعصية ، يعني أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن في الدنيا بل تزل (٤) أقدامهم أول شيء ، وكذلك لا يرشدهم إلى الجواب بالصواب في القبر والحشر (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [٢٧] من التوفيق والخذلان والتثبيت وترك التثبيت لا اعتراض عليه فيما يفعل ويريد ، لأن مشية الله تابعة للحكمة من التثبيت للمؤمن والإضلال للظالمين ، روي عن النبي عليهالسلام : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا في الجنة فيراهما جميعا ، وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال لا أدريت ولا تليت ـ أصله تلوت ـ ويضرب بمطارق من حديد يسمعها من يليه غير الثقلين» (٥).
وروي أنه عليهالسلام كان إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال «استغفروا لأخيكم واسألوا له بالتثبيت ، فانه الآن يسأل» (٦).
__________________
(١) وأوسطهما وآخرهما ، س : وأوسطهما وآخرها ، ب ، وأوسطهما وآخرها ، م.
(٢) يتشعب ، س م : تتشعب ، ب.
(٣) ذكر العجلوني نحوه في كشف الخفاء ، ١ / ١٩٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٧٧.
(٤) بانزال ، + م.
(٥) رواه البخاري ، الجنائز ، ٦٨ ، ٨٧ ؛ ومسلم ، الجنة ، ٧٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٧٩.
(٦) انظر البغوي ، ٣ / ٣٨٠. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.