ضوءهما تنتفعون به وجريانهما لأجل معرفة السنين والشهور والحساب ، يعني أنهما تجريان لأجلكم لا يفتران ، قال ابن عباس : «دورانهما في طاعة الله» (١)(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [٣٣] أي يتعاقبان في الضياء والظلمة والزيادة والنقصان تستقرون بالليل للمنام والاستراحة ، وتتحركون بالنهار التماسا لمعاشكم وحوائجكم.
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي أعطاكم بعض جميع ما طلبتموه من الله بلسان الحال مصلحة لكم ، ف (مِنْ) للتبعيض و (ما) موصولة ، أضيف إليه (كُلِّ) ، ويجوز أن يكون نكرة بمعنى شيء مع إضمار شيء آخر ، تقديره : وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا ، فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض ، وقيل : هو على التكثير كما يقال فلان يعلم من كل شيء (٢)(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) أي نعمة التي أنعمها عليكم (لا تُحْصُوها) أي لا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها على الإجمال لكثرتها ، وأعظم النعم إلهام المعرفة واستواء الخلقة من الإحصاء ، وهو وضع الحصاة في الحساب إذا بلغ عقدا (٣) ، وإستئناف العدد بعده حتى ينتهي الحساب ، يعني لا يوجد لها غاية فتوضع حصاة فيها أو المعنى : لا تقدروا على أداء شكرها (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي الجنس (لَظَلُومٌ) أي يظلم على نفسه باغفال الشكر أو يشكر ويجزع (كَفَّارٌ) [٣٤] أي ستار لنعم ربه ، لأنه يجمع ويمنع وهو مأمور بعدم الجمع والمنع.
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥))
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) أي اذكر وقت قوله (رَبِّ) أي يا خالقي ومالكي (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) أي مكة (آمِناً) أي ذا أمن فيه من القتل والغارة وغيرهما من المخوف ، وعرف هنا ونكر في سورة البقرة (٤) ، لأن النكرة إذا أعيدت تعرفت بلام العهد ليعلم أن الثاني هو الأول بعينه (وَاجْنُبْنِي) أي أبعدني (وَ) أبعد (بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [٣٥] أي من عبادة الأوثان وكانت أنصاب حجارة في البيت لكل قوم يعبدونها ، والدعاء في حق إبراهيم خليل الله لزيادة العصمة والتثبيت ودعاؤه في حق بنيه كذلك ، لأنه أراد بنيه من صلبه ولم يعبد أحد منهم الصنم ، فالمعنى : يا رب! ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادة الأصنام ، وفيه دليل أن المؤمن لا ينبغي له أن يأمن على إيمانه ، بل له أن يتضرع إلى الله ويسأل التثبيت على الإيمان وقتا فوقتا.
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦))
ثم قال إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ) أي الأصنام (أَضْلَلْنَ كَثِيراً) أي ضل بسببهن كثير (مِنَ النَّاسِ) عن طريق الهدى حتى عبدوهن فأعوذ بك لأن تعصمني وبني من ذلك (فَمَنْ تَبِعَنِي) بالإيمان بي (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي من أهل ديني حنيفا مسلما (وَمَنْ عَصانِي) أي من لم يطعني بالتوحيد (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٣٦] بأن توفقه ويتوب فيسلم وتغفر له ما سلف منه أو المعنى : ومن عصاني فيما دون الشرك ، وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك (٥).
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧))
ثم قال إبراهيم (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي بعض ذريتي ولدا وهو إسمعيل (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي بأرض مكة ، لأنها واد بين جبلين لم يكن لها ماء ولا حرث (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) وهو الكعبة ، وسمي محرما ، لأنه عظيم الحرمة ، لا يحل انتهاكها أو لأنه حرم على الطوفان أن يناله أو لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره من الاصطياد والقتال والدخول فيه بغير إحرام أو لأنه تعالى حرم التعرض له بسوء يوم خلق السموات والأرض.
__________________
(١) انظر البغوي ، ٣ / ٣٨٢.
(٢) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٣٨٢.
(٣) عقدا ، س م : عقد ، م.
(٤) انظر البقرة (٢) ، ١٢٦.
(٥) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٣٨٣.