قال ابن عباس : «إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا ، يسترقون السمع من الملائكة الذين يتكلمون بما هو كائن في الأرض ، فيرمونهم بالكواكب فلا يخطئ أبدا ، فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه أو يده أو جنبه أو حيث شاء الله ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البوادي» (١) ، قيل : إن النجوم ينقض من مكانه ويرمي الشيطان بلهبه ثم يعود إلى مكانه (٢) ، وقيل : يرميه بلهبه وهو يقعد في مكانه (٣) ، وعن ابن عباس : «كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات ، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون إلى الكهنة فيكذبون مائة كذبة من عند أنفسهم ، فلما ولد عيسي عليهالسلام منعوا من ثلث سموات ، فلما ولد محمد عليهالسلام منعوا من السموات أجمع ، فلما منعوا منها ذكروا ذلك لإبليس فقال لقد حدث في الأرض حدث ، فبعثهم فوجدوا رسول الله يقرأ القرآن ، فقالوا هذا والله حدث» (٤) ، قال معمر قلت للزهري : «أكان يرمي بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم ، أفرأيتم قوله (أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ)(٥) الآية؟ قال : لكن غلظ وشدد أمرها حين بعث محمد عليهالسلام» (٦).
(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩))
قوله (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) عطف على قوله (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) ، أي الأرض بسطناها على وجه الماء ، قيل : إنها مسيرة خمسمائة عام في مثلها دحيت من تحت الكعبة (٧)(وَأَلْقَيْنا) أي خلقنا وطرحنا (فِيها) أي عليها (رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت كي لا يتحرك وقد كانت الأرض تميل إلى أن أرساها الله بالجبال (وَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [١٩] أي مقدر معلوم بميزان الحكمة لا تصلح فيها زيادة ولا نقصان من الحبوب وغيرها ، وقيل : ما يوزن من الجواهر كالذهب والفضة والحديد وغيرها حتى الكحل والزرنيخ كل ذلك يوزن وزنا (٨) ، وقيل : المراد كل ما يوزن ويقدر نعمة ومنفعة من الأشياء (٩).
(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠))
(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) بالياء الصريحة دون الهمزة ، جمع معيشة بخلاف الشمائل والخبائث ، فان تصريح الياء فيهما خطأ ، والصواب الهمزة ، أي المطاعم والمشارب والملابس ، قوله (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) [٢٠] عطف على (مَعايِشَ) ، أي وجعلنا فيها الذي لستم تعطون رزقه من الدواب والأنعام ، ف (مَنْ) بمعنى ما أو المراد العبيد والنساء والصبيان والدواب ف (مَنْ) في موضعها ، المعنى : ان الله هو رزاق كل مرزوق فلا تعتقدوا أنكم ترزقون أحدا.
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))
ثم بين ذلك بقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) في الأرض والهواء مما يحتاج إلى الرزق (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي مفاتيح رزقه وهي المطر أو ضرب الخزائن مثلا لاقتداره وتصرفه على كل مقدور ، أي ما من شيء إلا وقدرتنا محيطة به ونحن المتصرفون فيه (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [٢١] أي ما ننزل المطر على الأرض إلا بوزن معين عندنا محسوب على قدر المصلحة أو ما نوجده مع كثرته واقتدارنا عليه إلا بحد مقدر وحساب معلوم لنا.
قيل : ما تنزل من السماء قطرة إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله تعالى (١٠) ، قال ابن عباس : «كانت الخزان تعلمه إلا يوم الطوفان ، فان الماء الذي به أغرق الله قوم نوح طغى عليهم وكثر بقدرته وإرادته فلم
__________________
(١) انظر البغوي ، ٣ / ٣٩٥.
(٢) نقله عن البغوي ، ٣ / ٣٩٧.
(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٤) انظر البغوي ، ٣ / ٣٩٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢١٦ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٢٩.
(٥) الجن (٧٢) ، ٩.
(٦) انظر البغوي ، ٣ / ٣٩٧.
(٧) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٣٩٧.
(٨) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٣٩٧.
(٩) اختصره المفسر من الكشاف ، ٣ / ١٣٠.
(١٠) وهذا منقول عن البغوي ، ٣ / ٣٩٨.