(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦))
ثم هددهم بصنع من تقدمهم (١) من الكفار فأهلكهم الله بسببه فقال (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قد صنع كيد الذين (٢) من قبل المقتسمين ، فأبطل الله كيدهم ، قيل : منهم نمرود بن كنعان حيث بنى قصرا عاليا في غاية الحصانة ببابل ليصعد إلى السماء ليقاتل على من في السماء بزعمه ، وكان طوله خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلثلة آلاف ذراع وكان لسان الناس يومئذ بالسريانية ، فأهب الله تعالى الريح عليه ، فألقت رأسه في البحر ، وخر عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلثة وسبعين لسانا بحيث لم يفهم أحد منهم لسان آخر فتعطل قصره من الإعادة ، ولذلك سميت تلك البقعة ببابل (٣) ، فذلك قوله تعالى (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) أي قصد أمره تخريب بنائهم (مِنَ الْقَواعِدِ) أي من أساطين البناء التي تعمده وتقويه أو من أصوله وأساسه (فَخَرَّ) أي سقط (عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) أي أعلاه (مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [٢٦] بمجيئه ، وقيل : من مأمنهم (٤).
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) الله ، أي يهينهم بالعذاب ولم يكن ما أصابهم في الدنيا من العذاب كفارة لذنوبهم (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ) بكسر النون ، أي تشاقونني ، وبفتح النون (٥) ، لأنها نون الجمع ، أي تخاصمون (فِيهِمْ) أي شأنهم وتخالفون المؤمنين بسببهم وعبادتهم ما لهم لا يحضرونكم فيدفعوا عنكم العذاب (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي يقول الأنبياء أو العلماء الناصحون أو الملائكة شماتة (إِنَّ الْخِزْيَ) أي الهوان (الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) أي العذاب الدائم (عَلَى الْكافِرِينَ [٢٧] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) بالتاء والياء (٦) ، أي يقبض أرواحهم (الْمَلائِكَةُ) أي ملك الموت وأعوانه (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالكفر نصب على الحال ، أي في حال كفرهم (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي استسلموا وانقادوا وجاؤا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر والكفر جاحدين ما وجد منهم في الدنيا ، وقالوا (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي شركا وشقاقا وغيرهما ، فقال لهم الملائكة أو الله (بَلى) أشركتم بالله أصنامكم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٢٨] من الشرك وغيره فيجازيكم عليه ، وهذا أيضا من الشماتة ، قيل : «هم قوم من المؤمنين باللسان خرجوا مع المشركين يوم بدر فلما رأوا قلة المؤمنين وكثرة الكافرين رجعوا إلى الشرك فقتلوا ثمه» (٧) ، ويقول لهم الخزنة يوم القيامة (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [٢٩] أي مستقرهم ومنزلهم جهنم لاستكبارهم عن الإيمان في الدنيا.
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠))
ثم نقل من قصة الكافرين إلى قصة المؤمنين بقوله (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) نزل في المؤمنين الذين يدعون الناس إلى الإيمان على عقاب مكة حين بعث النبي عليهالسلام رجالا من الصحابة لتكذيب المشركين الذين يصدون
__________________
(١) تقدمهم ، ب س : يقدمهم ، م.
(٢) كيد الذين ، م : كيدا الذين ، ب س.
(٣) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٣٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٢٤.
(٤) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٢٤.
(٥) «تشاقون» : قرأ نافع بكسر النون ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ١٧٨.
(٦) «تتوفيهم» : قرأ حمزة وخلف بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية. البدور الزاهرة ، ١٧٨.
(٧) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٣٣.