(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥))
ثم قال تهديدا لهم (أَفَأَمِنَ) أي أجحد الحق فغفل (الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي عملوا الحيل القبيحة في إبطال دينه الحق وهم أهل مكة من (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) أي أن يدخلهم فيها إحياء إلى الأرض السفلى (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [٤٥] أي لا يدركون بهلاكهم لغفلتهم.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦))
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ) بالعذاب (فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي في تصرفهم وتنقلهم من بلد إلى بلد في تجارتهم (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [٤٦] أي بفائتين من عذابه تعالى.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ) بالعذاب (عَلى تَخَوُّفٍ) أي تنقص شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا جميعا ، يقال تخوفهم الدهر إذا نقصهم وأخذ أموالهم وحشمهم أو يأخذ القرية بالعذاب ويترك أخرى قريبة منها ، فيخوفها بتلك ، فان لم ينتهوا أخذ الأخرى (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [٤٧] بالإمهال مع استحقاق العذاب وترك العجلة بعقاب.
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨))
قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ) بالتاء والياء (١) ، إخبار عن الذين مكروا السيئات ، أي ألم ينظروا ولم يعتبروا إلى الذي خلق الله (مِنْ شَيْءٍ) أي جسم قائم له ظل عند طلوع الشمس وعند غروبها (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) بالتاء والياء (٢) ، أي تدور وترجع بتسييرها على بروجها ، والفيء الرجوع (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) وهو استعارة من يمين الإنسان وشماله ، و (الشَّمائِلِ) جمع شمال وهو اليسار ، وإنما جمعه دون اليمين مع أن المراد منه الأيمان ليجري الكلام على عادة العرب حيث يكتفون بواحدة من العلامتين إذا اجتمعتا كقوله تعالى (وَعَلى سَمْعِهِمْ)(٣) ، ونصب على الحال من الظلال ، قوله (سُجَّداً لِلَّهِ) أي مائلات ودائرات بالانقياد لأمر الله ، فالسجود هنا استعير للاستسلام من السجود للطاعة ، قيل : سجود الظلال ميلانها ودورانها من جانب إلى جانب ، أما عن اليمين فهو في أول النهار وأما عن الشمال فهو في آخر النهار (٤) ، وقيل : «الظل قبل الطلوع وبعد الغروب يحتوي جميع جهاتك وعند الطلوع كان قدامك وعند الارتفاع كان عن يمينك ثم يكون خلفك ثم يكون عن يسارك قبل الغروب» (٥) ، فهذا التقلب عبارة عن سجوده ، وقيل : المراد من سجود الضلال سجود الأشخاص (٦) ، وفيه تأمل لأن الآية الآتية بعد تغني عن ذلك ، فالأولى أن يحمل على حقيقته تعريضا للمستكبرين عن السجود حيث يعجزون أن يكونوا مثل الظلال في الانقياد لأمره تعالى مع ضعفها (وَهُمْ داخِرُونَ) [٤٨] الجملة حال من ضمير (سُجَّداً) ، أي والحال أن الضلال ذليلون في حال السجود ، وجمع الداخر بالواو والنون ، لأن الدخور من صفات العقلاء.
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩))
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) أي ينقاد لإرادة الله ويخضع (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والمراد منه العقلاء وغيرهم لإرادة العموم ، ولذا اختار ذكر «ما» على «من» (مِنْ دابَّةٍ) بيان لما فيهما على تقدير أن يكون في السماء خلق
__________________
(١) «أو لم يروا» : قرأ الأخوان وخلف بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ١٧٩.
(٢) «يتفيؤا» : قرأ البصريان بتاء التأنيث ، والباقون بياء التذكير. البدور الزاهرة ، ١٧٩.
(٣) البقرة (٢) ، ٧.
(٤) لعله اختصره من البغوي ، ٣ / ٤٣٠.
(٥) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٤٣٠.
(٦) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٣٠.