النفع إليهم مالا ونفسا (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي وبصلة الرحم (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) أي الزنا أو كل ما قبح من القول والفعل (وَالْمُنْكَرِ) أي وبما لا يعرف شرعا ولا عقلا (وَالْبَغْيِ) أي التكبر والظلم (يَعِظُكُمْ) الله بالأمر بثلثة أشياء والنهي عن ثلثة أشياء ، وهي علم الأولين والآخرين في مكارم الأخلاق (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [٩٠] أي لكي تتعظوا وترشدوا ، نزل سببا لإسلام عثمان بن مظعون ، وذلك أنه قال : دعاني رسول الله عليهالسلام إلى الإسلام ، فأسلمت حياء منه ولم يقر الإسلام في قلبي فمررت به ذات يوم وهو بفناء بابه فحيني جالسا فدعاني فجلست إليه فبينما يحدثني إذا رأيت بصره شخص إلى السماء حتى رأيت طرفه قد انقطع فمكث زمانا ثم خفض رأسه عن يمينه ثم رفعه مرة أخرى إلى السماء ثم خفضه عن يساره ثم أقبل علي محمرا وجهه يفيض عرقا فسألت عن تلك الحالة النازلة عليه ، فقال بينما أحدثك إذ رفعت بصري إلى السماء رأيت جبرائيل ينزل علي فلم يكن لي همة غيره حتى نزل عن يميني ، فقال يا محمد «إن الله يأمر بالعدل» الآية ، قال عثمان فاستقر الإيمان في قلبي يومئذ (١) ، قال ابن مسعود : «ليس في القرآن أجمع آية لمكارم الأخلاق من هذه الآية» (٢) ، وتقدير المعنى فيها : فافعلوا ما أمرتم به واتعظوا.
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١))
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) أي وأتموا عهده الذي بينه وبينكم (إِذا عاهَدْتُمْ) الله وهو البيعة لرسول الله على الإسلام أو المراد هو العهد الذي بينكم وبين غيركم من الناس وهو اليمين وكفارة اليمين إذا حلفتم ثم نقضتم (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) أي ولا تنكثوا العهود (بَعْدَ تَوْكِيدِها) أي بعد تشديدها باسم الله ، وأكد ووكد واحد ، والأصل الواو والهمزة بدل (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي شهيدا على الوفاء بها ، لأن الكفيل من يرعى حال المكفول به رقيب عليه ، والواو للحال (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [٩١] في وفاء العهود ونقضها.
(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢))
ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد بقوله (وَلا تَكُونُوا) في نقض العهد واليمين (كَالَّتِي) أي كالمرأة التي (نَقَضَتْ غَزْلَها) من قريش وهي ريطة الحمقاء بنت عمر بن سعد وكانت بها وسوسة من الشيطان (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي إحكام وإبرام فجعلته (أَنْكاثاً) ونصبه حال من (غَزْلَها) ، جمع نكث بمعنى منكوث ، وهو ما يحل بعد الفتل غزلا أو حبلا ، وكانت تلك المرأة تغزل الغزل من صوف وغيره وتأمر جواريها بذلك فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، ثم أمرتهن بنقض جميع ما غزلن بعد الزوال ، فهذا كان دأبها ، والمعنى : أنها لم تكف عن العمل وحين عملت لم تكف عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لاكففتم عن العهد ولأوفيتم به حين عهدتم (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ) أي عهودكم ، محله نصب على الحال من اسم «كان» (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي دغلا وخيانة وفسدة فيكم ، ونصبه مفعول ثان ل (تَتَّخِذُونَ) ، الدخل اسم ما يدخل في الشيء للفساد (أَنْ تَكُونَ) أي بسبب أن تثبت (أُمَّةٌ) أي جماعة (هِيَ أَرْبى) أي أزيد عددا وأوفر مالا (مِنْ أُمَّةٍ) أي من جماعة حالفتموهم ، والجملة في محل الرفع صفة (أُمَّةٌ) لا نصب ، خبر «كان» ، لأنها تامة ، قيل : «إنهم كانوا يحالفون الحلفاء فاذا وجدوا قوما أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر لطلب العزة بنقض العهد فنهاهم الله تعالى عن ذلك» (٣) ، وقال تأكيدا للنهي (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي يختبركم بأمره إياكم
__________________
(١) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٤٧ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٣٦.
(٢) انظر البغوي ، ٣ / ٤٤٥.
(٣) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٤٨ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٤٦.