(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))
ثم أخبر تعالى أن صفة الافتراء مخصوصة بالمشركين من قريش بقوله (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) أي ما يختلقه (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) [١٠٥] لا محمد عليهالسلام فهو رد لقولهم «إنما أنت مفتر» ، يعني عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء ، قال عبد الله بن جراد : قلت يا رسول الله! أيزني المؤمن؟ قال : قد يكون ، قلت : أيسرق؟ قال : قد يكون ، قات : أيكذب؟ قال : لا ، فقرأ «إنما يفتري الكذب» الآية (١).
(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦))
قوله (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) نزل في ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله أن هاجروا فانا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم ، فكفروا كارهين وقلوبهم مطمئنة بالإيمان ، منهم عمار ويسار وياسر وأمه وصهيب ، فأخبر رسول الله أن عمارا كفر بعد الإيمان ، فقال كلا إن عمار ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتي برسول الله وهو يبكي ، فقال رسول الله : ما وراءك؟ قال : شر يا رسول الله ، نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، قال : كيف وجدت قلبك؟ قال : مطمئنا بالإيمان ، فجعل النبي عليهالسلام يمسح عينيه ، وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (٢) ، فأوحى الله إليه من تكلم بكلمة الكفر فقد استحق الغضب والعقاب من الله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) استثناء متصل لتناول الكفر على القول والاعتقاد ، أي إلا من أجبر على كلمة الكفر فكفر مكرها (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي ثابت على ما كان منه ، ثم أخبر عن حال من لم يثبت على الإيمان بقوله (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ) أي فتح (بِالْكُفْرِ صَدْراً) يعني اختار وقبل قلبه الكفر وطابت نفسه به (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [١٠٦] أي شديد في الآخرة ، قيل : أجمع العلماء على من أكره على كلمة الكفر يجوز أن يقول بلسانه دون قلبه لخوف من الله ، فهو مؤمن حقا ، وإن أبى أن يقوله بلسانه حتى يقتل كان أفضل من قوله غير معتقد (٣) ، روي : أن ياسرا أبا عمار وأمه سمية قتلا بعد التعذيب لأجل الإسلام ، وهما أول قتيلين فيه وأمرهما أفضل من أمر عمار ، لأن في ترك التقية والصبر على القتل إعزازا للإسلام (٤).
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧))
(ذلِكَ) أي الغضب والعذاب العظيم يلحقانهم (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا) أي اختاروا (الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ) أي وبسبب أن (اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [١٠٧] أي لا يرشدهم إلى الإيمان لعدم رغبتهم في قلوبهم إليه.
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨))
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ) أي ختم بخذلانه (عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [١٠٨] أي الكاملون في الغفلة ، لأن أشد الغفلة وغايتها الغفلة عن عواقب الأمور ولأجل ذلك اجترؤا على ترك أمر الله ونهيه.
__________________
(١) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٤٥١.
(٢) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٥٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٥١ ـ ٤٥٢ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٣٧ ـ ٢٣٨.
(٣) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٤٥٢.
(٤) اختصره المؤلف من السمرقندي ، ٢ / ٢٥٢ ؛ والبغوي ، ٣ / ٤٥١.