أي حاكما يحكم بيني وبينكم للفصل بين المحق منا وبين المبطل ، وذلك حين طلبوا منه قاضيا يقضي بينه وبينهم (وَهُوَ) أي الله (١)(الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) أي القرآن (مُفَصَّلاً) أي مبينا فيه الحق من الباطل بلغة تعرفونها (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي مؤمنو أهل الكتاب (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي القرآن (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أي ملابسا بالصدق (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [١١٤] أي الشاكين في نزوله من عند الله أو في علم أهل الكتاب أنه من عند الله ، يعني لا يريبك جحود أكثرهم به ، خطاب للنبي عليهالسلام والمراد أمته ، ويجوز أن يكون الخطاب عاما لكل أحد ، وهذا من باب التهييج على الشيء ، يعني إذا تعاضدت الأدلة على صحته فما ينبغي أن يمتري فيه أحد.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥))
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) بالإفراد والجمع (٢) ، أي تم ووجب كل أخبار الله بالوعد والوعيد والتحليل والتحريم ، ومن ذلك نصرة المؤمنين وخذلان الكافرين (صِدْقاً وَعَدْلاً) حالان من «ربك» ، أي صادقا فيما أخبر عنه وعادلا فيما حكم به (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا مغير لشيء (٣) منها بما هو أصدق وأعدل (وَهُوَ السَّمِيعُ) بما سألوا (الْعَلِيمُ) [١١٥] بما نووا.
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦))
قوله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) نزل حين خاصم المشركون النبي عليهالسلام في أكل الميتة وقالوا : إنك تزعم أنك تعبد الله فما قتل الله أحق بأن تأكل مما قتلت أنت بيدك (٤) ، فقال تعالى إن تطع يا محمد أكثر من في أرض مكة أو الكفار لأن أكثر من في الأرض كانوا كفارا (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يصرفوك عن دين الله ، لأنهم يتبعون أهواءهم ، يؤكده قوله (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبع الكافرون (إِلَّا الظَّنَّ) أي آباءهم بالظن ، لأنهم ظنوا أن آباءهم كانوا على الحق ، فهم يقلدونهم ، فاقتصروا على الظن بالجهل ولم يسعوا في طلب الحق ، واتبعوا أهواءهم ، فلذلك استحقوا التعذيب (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [١١٦] أي يقدرون أنهم على شيء أو يكذبون في قولهم إن الله أحل كذا وحرم كذا.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ) أي أي إنسان ينصرف (عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن دينه وشرائعه ، و (مَنْ) مبتدأ ، و (يَضِلُّ) خبره ، والجملة في محل النصب ب «يعلم» مقدرة ، دل عليه «أعلم» ، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في اسم ظاهر ، ولا يجوز إضافة (أَعْلَمُ) إلى (مَنْ) ، لأنه لو جر بالإضافة لزم كونه تعالى ضالا ، لأن أفعل التفضيل (٥) يضاف إلى ما هو بعضه وهو منزه عن ذلك ، ويجوز أن يكون (مَنْ) بمعنى الذي أو نكرة موصوفة ، المعنى : أن الله أعلم بالضالين عن دينه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [١١٧] لدينه.
(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨))
قوله (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) نزل حين كان الكفار يحلون بعض الذبائح ويأكلون بعض الميتات (٦) ، فأمر الله المؤمنين بأن يأكلوا مما ذكي على اسم الله خاصة ، أي كلوا مما ذبح ببسم الله ولا تعدوه إلى الميتة (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) [١١٨] أي مصدقين بآياته.
(وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ
__________________
(١) أي الله ، ب س : ـ م.
(٢) «كلمت» : قرأ الكوفيون ويعقوب بغير ألف بعد الميم ، والباقون باثباتها. البدور الزاهرة ، ١٠٩.
(٣) لشيء ، ب م : بشيء ، س.
(٤) أخذه عن البغوي ، ٢ / ٤٠٩.
(٥) أفعل التفضيل ، م : أفعل ، ب س.
(٦) لعله اختصره من السمرقندي ، ١ / ٥٠٩ ؛ والبغوي ، ٢ / ٤٠٩.