(غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وهو قتل أنفسهم توبة (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي غربة شديدة فيها ، لأن في الغربة ذلة ، وقيل : المراد أبناؤهم (١) كقريظة والنضير ، والغضب قتلهم وإجلاؤهم ، والذلة ضرب الجزية عليهم (٢)(وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك الجزاء (نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) [١٥٢] أي نعاقب المتقولين على الله بأن له شريكا في العبادة.
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣))
ثم رغبهم في التوبة من المعاصي لسعة رحمته بعباده بقوله (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من الكفر والمعاصي (ثُمَّ تابُوا) أي رجعوا بالإخلاص (مِنْ بَعْدِها) أي بعد عمل السيئات (٣)(وَآمَنُوا) أي صدقوا بوحدانية الله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي بعد التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [١٥٣] بالتجاوز عن ذنوبهم وإدخالهم الجنة.
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))
ثم رجع إلى الإخبار عن حال موسى عليهالسلام بقوله (وَلَمَّا سَكَتَ) أي طفئ (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) والسكوت ضد النطق وهما من صفات المتكلم ، لكن لما كان الغضب كأنه الأمر من شدته لموسى أن يقول لقومه ما قال وأن يفعل بأخيه ما فعل ، قال «سكت» مكان سكن ، يعني لما زال الغضب عن نفس موسى (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي ألقاها على الأرض من غضبه (وَفِي نُسْخَتِها) أي فيما نسخ (٤) منها ، أي كتبت ولم يضمحل بعد أن كسرت (هُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ) من العذاب ، مبتدأ ، خبره «في نسختها» ، ومحل الجملة نصب على الحال من «الْأَلْواحَ» (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [١٥٤] أي للذين يخشون ربهم ، فاللام في (لِرَبِّهِمْ) زائدة لأجل تقدم المفعول على فعله لضعف الفعل عن العمل في المفعول المقدم عليه.
قال ابن عباس : «لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما ، فردت عليه في لوحين» (٥).
(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥))
قوله (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) نزل إخبارا عما أراد موسى أن يذهب مع بعض بني إسرائيل إلى الجبل للاعتذار إلى ربهم من عبادتهم العجل ، فأمر الله تعالى موسى بأن يختار سبعين رجلا منهم ، فاختار موسى من كل سبط ستة رجال فبلغوا اثنين وسبعين ، فقال موسى : إني أمرت بسبعين فليرجع اثنان ولهما أجر من حضر ، فرجع يوشع بن نون وكالب ابن يوفنا (٦) ، فقال تعالى لنبيه عليهالسلام عن ذلك بقوله «واختار» ، أي (٧) اصطفى موسى من قومه ، فحذف الجار وأوصل الفعل إليه بالعمل ، ومفعوله الصريح (سَبْعِينَ رَجُلاً) تمييز (لِمِيقاتِنا) أي للوقت الذي واعدناه أن يأتينا فيه بسبعين رجلا من خيار قومه يعتذرون إلينا من عبادة العجل ، فخرج موسى بهم إلى طور سينا ، جبل بالشام بالإضافة إلى سينا بالقصر ، وهي شجر ثمه ، فلما قرب موسى إلى الجبل نزل عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، فدخل فيه موسى ودخل القوم أيضا باذنه فوقعوا سجدا ، وكلمه ربه بأمره ونهيه وهم سمعوا ذلك ، ثم انكشف الغمام ، فقالوا : يا موسى أرنا الله جهرة ، فوعظهم بنزول العذاب وزجرهم فلم ينزجروا (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي رجف بهم الجبل فصعقوا ، وقيل : «نزلت نار بهم فأحرقتهم فماتوا» (٨)(قالَ) موسى ثمه ترحما بهم (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل (٩) هذا اليوم عند عبادة
__________________
(١) أبناؤهم ، ب م : بناؤهم ، س.
(٢) قد اختصره المؤلف من البغوي ، ٢ / ٥٤٨ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٣٧.
(٣) أي بعد عمل السيئات ، ب س : ـ م.
(٤) نسخ ، ب س : ينسخ ، م.
(٥) عن ابن عباس وعمرو بن دينار ، انظر البغوي ، ٢ / ٥٤٩.
(٦) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٥٧٣ ؛ والبغوي ، ٢ / ٥٥٠.
(٧) واختار أي ، م : ـ ب س.
(٨) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٥٧٣.
(٩) أي من قبل ، س : أي قبل ، ب م.