والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكميّة من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبراءة هو أنّ نفس (*) التكليف فيها مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلا وبين تعلّقه بالمشكوك ، وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل ؛ لأنّ مرجعه إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ، وهي قبيحة بحكم العقل ، فالعقل والنقل الدالّان على البراءة مبيّنان لمتعلّق التكليف (**) من أوّل الأمر في مرحلة الظاهر.
وأمّا ما نحن فيه ، فمتعلّق التكليف فيه مبيّن معيّن معلوم تفصيلا ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ، وإنّما الشكّ في تحقّقه في الخارج بإتيان الأجزاء المعلومة ، والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحقّقه في الخارج ، بل الأصل عدم تحقّقه ، والعقل أيضا مستقلّ بوجوب الاحتياط مع الشكّ في التحقّق.
______________________________________________________
بالأقلّ ، علّة تامّة لحكم العقل بالاشتغال ووجوب الإتيان بالأكثر. وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ المعتبر في الاستصحاب إذا كان علّة تامّة لحكم العقل بثبوت الحكم السابق في الظاهر يرتفع الشكّ عنه ، فلا يبقى مجال لاستصحابه. ومن هنا لا يصحّ استصحاب الاشتغال في جميع الموارد التي يصحّ التمسّك فيها بقاعدته ، وكذلك استصحاب البراءة في جميع موارد قاعدتها.
وأمّا ثانيا : فإنّ وجوب الإتيان بالأكثر أثر عقلي مرتّب على عدم تحقّق المأمور به وبقاء الاشتغال ، فلا يثبت بالاصول إلّا على القول بالاصول المثبتة. فالاولى في تقرير الدليل على المدّعى هو التمسّك بذيل قاعدة الاشتغال ، كما أشار إليه المصنّف رحمهالله بقوله : «والعقل أيضا يحكم بوجوب القطع ..».
ثمّ إنّ المخالف في المقام لم يوجد إلّا ما حكي عن المحقّق الخوانساري وما يظهر من المحقّق القمّي رحمهالله ، وقد تقدّم في المتباينين ما يمكن استظهار مستندهما منه ، ولكن ضعفه غير خفيّ على الأفهام المستقيمة ، فتدبّر.
__________________
(*) في بعض النسخ زيادة : متعلّق.
(**) في بعض النسخ زيادة : بما عداه.