أيَّ الشراب أحب اليك ؟
فقال : النبيذ ! فسقوه نبيذاً ، فخرج من بعض طعناته !
وذهل الطبيب لما رأى ، لكن الناس اشتبه عليهم الأمر ، فقالوا : صديد ! صديد ! اسقوه لبناً ، وكأنهم أرادوا أن يثبتوا للطبيب خطأ تقديره .
فسقوه لبناً ، فخرج اللبن أبيض صريحاً !
وذُهل الناس ! أما الطبيب ، فالتفت إلى الخليفة قائلاً : لا أرى أن تمسي ؛ فما كنت فاعلاً فافعل .
بعد هنيهة جاء كعب الأحبار ، فدخل عليه وقال له معزياً ومسلياً : قد أنبأتك أنك شهيد !
لكن الخليفة نظر إليه نظرة استرخاء ، فيها شيء من السخرية والاستهزاء ، مفهماً إياه أن الأمر أدق مما يحاول تصويره ، وأنه ليس هناك حيث يظن ، معيداً إلى ذاكرته ما كان اجابه به قبل ثلاثة أيام ، فقال له : وانى لي بالشهادة ، وأنا في جزيرة العرب ؟! وما ضرّ كعباً أن لا يعلق على جوابه هذا ، فلم يبق من عمره إلا ساعات من نهار ، وفي ذلك أمانٌ له من الدِرّة ، لكنه فهم أن عمر ليس بالإِنسان الساذج البسيط الذي تنطوي عليه هذه العبارات الفارغة ، دون أن يفهم أبعادها .
وخرج كعب من عنده : ليترك المجال للناس يثنون على الخليفة وهو في آخر ساعات من حياته . « فجعل الناس يثنون عليه ويذكرون فضله » . فوجدوا منه غير ما كانوا يتوقعون ، حيث إلتفت إليهم قائلاً : « إن من غررتموه لمغرور ، إني والله وددت أن أخرج منها كفافاً كما دخلت فيها ، والله لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس لافتديتُ به من هول المَطلَع . ! » (١)
ثم
أقبل إليه المتزلفون يستثيرون منه مكمن العاطفة ، يتقربون إليه
____________________
(١) : الإِمامة والسياسة ١ / ٢٦ .