( بيان )
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت ، الرؤية ههنا بمعنى العلم ، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى : ألم تر ان الله خلق السموات والارض بالحق إبراهيم ـ ١٩ ، وقوله تعالى : ( ألم تر كيف خلق الله سبع سموات طباقا ) نوح ـ ١٥.
وقد ذكر الزمخشري ان لفظ ألم تر جري مجرى المثل ، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا : ألم تر كذا وكذا معناه الا تعجب لكذا وكذا ، وحذر الموت مفعول له ، ويمكن ان يكون مفعولا مطلقا والتقدير يحذرون الموت حذرا.
قوله تعالى : فقال لهم الله موتوا ثم احياهم ، الامر تكويني ولا ينافي كون موتهم واقعا عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات : ان ذلك كان بالطاعون ، وإنما عبر بالامر ، دون ان يقال : فاماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة وغلبة الامر ، فإن التعبير بالانشاء في التكوينيات أقوى وآكد من التعبير بالاخبار كما ان التعبير بصورة الاخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى وآكد من الانشاء ، ولا يخلو قوله تعالى : ثم أحياهم عن الدلالة على ان الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم ، إذ لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف ، على ان قوله تعالى بعد : إن الله لذو فضل على الناس ، يشعر بذلك ايضا.
قوله تعالى : ولكن اكثر الناس لا يشكرون ، الاظهار في موضع الاضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانيا لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم ، على ان هؤلاء الذين تفضل الله عليهم بالاحياء طائفة خاصة ، وليس المراد كون الاكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الاكثر من جميع الناس ، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال ، لما في الجهاد من إحياء الملة بعد موتها.
وقد ذكر بعض المفسرين ان الآية مثل ضربه الله لحال الامة في تأخرها وموتها باستخزاء الاجانب إياها ببسط السلطة والسيطرة عليها ، ثم حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيوية واستقلالها في حكومتها على نفسها.