وخاصة مع ما فيه المؤمنين من القلة بعد جواز النهر وتفرق الناس ، ونظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى : فلما فصل طالوت بالجنود .
وفي مجموع الكلام إِشارة إِلى حق الامر في شأن بني إِسرائيل وإِيفائهم بميثاق الله ، فإِنهم سألوا بعث الملك جميعاً وشدوا الميثاق ، وقد كانوا من الكثرة بحيث لما تولوا إِلا قليلاً منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنوداً ، وهذه الجنود أيضاً لم تغن عنهم شيئاً بل تخلفوا بشرب النهر ولم يبق إِلا القليل من القليل مع شائبة فشل ونفاق بينهم من جهة المغترفين ، ومع ذلك كان النصر للذين آمنوا وصبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة .
والابتلاء الامتحان ، والنهر مجرى الماء الفائض ، والاغتراف والغرف رفع الشيء وتناوله ، يقال : غرف الماء غرفة واغترفه غرفة إِذا رفعه ليتناوله ويشربه .
وفي استثناء قوله تعالى : إِلا من اغترف
غرفة بيده عن مطلق الشرب دلالة على أنه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصة ، وقد كان الظاهر أن يقال : فمن شرب منه فليس مني إِلا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى : ومن لم يطعم فإِنه مني ، في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم ومعناه الذوق أوجب تحولاً في الكلام من جهة المعنى إِذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أن جميع الجنود كانوا من
طالوت ، والشرب يوجب انقطاع جمع منه والاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتصال وأما لو اضيفت الجملة الثانية ، أعني قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإِنه مني الى الجملة
الاولى كان مفاد الكلام أن الامر غير مستقر بحسب الحقيقة بعد إِلا بحسب الظاهر فالجنود في
الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقق بعد أن الذين هم مع طالوت من هم ، ثم النهر الذي سيبتليهم الله به سيحقق كلا الفريقين ويشخصهما فيعين به من ليس منه وهو من شرب من النهر ، ويتعين به من هو منه وهو من لم يطعمه ، واذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء الا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لان ذلك انما كان مفاداً لو كان المذكور هناك الجملة الاولى فقط ، واما مع وجود
الجملتين فيتعين الطائفتان : اعني الذين ليسوا منه وهم الشاربون ، والذين هم منه وهم غير الطاعمين ، ومن المعلوم ان الاخراج من الطائفة الاولى إِنما يوجب الخروج منها لا
الدخول في الثانية ، ولازم ذلك ان الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف : الذين ليسوا منه ،