غير فاطمة ، هؤلاء الابناء والبنات الذين تساقطوا من حوله قد دفنهم بيده تحت صفائح الثرى ، تركوا في نفسه قرحة ألم اندملت بمولد ابراهيم واثمرت مكانها رجاءً واملاً ، وكان حلاً له ان يمتلئ بهذا الامل غبطة واستبشاراً.
مرّ بنا كيف ان النبي الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يحب فاطمة ، يصونها ويؤنس وحشتها ، لكن محمداً قد مرض وقد بلغت به شدة المرض حداً آلمه ، ذلك ان الحمى زادت به حتى لقد كانت عليه قطيفة ، فاذا وضع ازواجه وعوّاده ايديهم من فوقها شعروا بحر هذه الحمى المضنية ، وكانت ابنته فاطمة تعوده كل يوم ، وكان يحبها ذلك الحب الذي يمتلئ به وجود الرجل للابنة الواحدة الباقية له من كل عقبه ، لذلك كانت اذا دخلت على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قام اليها وقبلها واجلسها في مجلسه ، فلما بلغ منه المرض هذا المبلغ دخلت عليه فقبلته ، فقال : مرحباً يا بنيتي ، ثم اجلسها الى جانبه واسرَّ اليها حديثاً آخر فضحكت ، فسألتها عائشة في ذلك ، فقالت : ما كنت لأفشي سر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلما مات ذكرت انه اسرَّ اليها انه سيقبض في مرضه هذا فبكت ، ثم اسرَّ انها اول اهله يلحقه ، فضحكت ، وكانوا لاشتداد الحمى به يضعون الى جواره اناء فيه ماء بارد ، فما يزال يضع يده فيه ويمسح بها على وجهه ، وكانت الحمى تصل به حتى يغشى عليه احياناً ثم يفيق وهو يعاني منها اشد الكرب. حتى قالت فاطمة يوماً وقد حز الالم في نفسها لشدة الم ابيها : واكرب ابتاه ، فقال : لا كرب على ابيك بعد اليوم. يريد انه سينتقل من هذا العالم ، عالم الاسى والألم (١).
__________________
(١) حياة محمد / محمد حسين هيكل / ص ٣١٣.