حينا آخر ـ بابا خاصا تناول فيه فصولا من المأهول المجازي في الاستعارة والمجاز والتمثيل(١).
والذي يبدو لي من تعقب هذه الحقبة أن الاتجاه المنظور اليه لدى العلماء في مصنفاتهم التي أوردناها كان البحث المنظّم والمفهرس في غريب القرآن ، ومعانيه اللغوية ، وشوارده العربية ، ولم يكن لمجاز القرآن ولا لمعاينه بالاصطلاح البلاغي فيها أي إرادة مسبقة ، وإن وردت بعض الإشارات البلاغية بإطارها العام مما لا بد منه في إيضاح المعنى اللغوي فالبلاغة جزء من علم اللغة.
يبدو أن الجاحظ ( ت : ٢٥٥ هـ ) هو أول من استعمل المجاز للدلالة على جميع الصور البيانية تارة ، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، بل على معالم الصورة الفنية المستخلصة من اقتران الألفاظ بالمعاني ، فهو كمعاصريه يعبر عن جمهرة الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه ، يعبر عنها جميعا بالمجاز ، ويتضح هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البلاغية التي يطلق عليها اسم المجاز ، وقد انسحب هذا على المجاز القرآني لديه (٢).
ويعلل هذا التواضع عند الجاحظ ومعاصريه بأمرين :
الأول : إرجاع صنوف البيان العربي وتفريعاته الى الأصل ، وهو عندهم : المجاز بمعناه الواسع.
الثاني : عدم وضوح استقلالية هذه المصطلحات بالمراد الدقيق منها في مفهومها ودلالتها كما هي الحال في جلائها بحدود معينة بعد عصر الجاحظ عند كل من ابن قتيبة ( ت : ٢٧٦ هـ ) وعلي بن عبد العزيز المعروف بالقاضي الجرجاني (ت : ٣٦٦ هـ) وعلي بن عيسى الرماني (ت : ٣٨٦ هـ) وسليمان بن حمد الخطابي ( ت : ٣٨٨ هـ ) وأبي هلال العسكري
__________________
(١) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : ٧٦ وما بعدها.
(٢) ظ : استعمالات الجاحظ لاطلاقات المجاز ، الحيوان : ٥ / ٢٣ ـ ٣٤.