من ذلك كتبليغ التوحيد ونفي الوثنية إلى كفار قريش ومشركي العرب وهم أغلظ جانبا وأشد بطشا وأسفك للدماء ، وأفتك من اليهود وسائر أهل الكتاب ، ولم يهدده الله في أمر تبليغهم ولا آمنه بالعصمة منهم.
على أن الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهي نازلة فيها قطعا ، واليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم ، وخمدت نيرانهم ، وشملتهم السخطة واللعنة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول الله صلىاللهعليهوآله منهم في دين الله ، وقد دخلوا يومئذ في السلم في حظيرة الإسلام وقبلوا هم والنصارى الجزية ، ولا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم واضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم ، وهو أمر قد بلغ إليهم ما هو أعظم منه ، وقد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه وأوحش.
فلا ينبغي الارتياب في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها واللاحقة لها في سياقها ، ولا تتصل بها في سردها ، وإنما هي آية مفردة نزلت وحدها.
والآية تكشف عن أمر قد أنزل على النبي صلىاللهعليهوآله (إما مجموع الدين أو بعض أجزائه) وكان النبي صلىاللهعليهوآله يخاف الناس من تبليغه ويؤخره إلى حين يناسبه ، ولو لا مخافته وإمساكه لم يحتج إلى تهديده بقوله : « وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ » كما وقع في آيات أول البعثة الخالية عن التهديد كقوله تعالى : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ » إلى آخر سورة العلق ، وقوله : « يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ » : المدثر : ٢ ، وقوله : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) : حم السجدة : ٦ ، إلى غير ذلك.
فهو صلىاللهعليهوآله كان يخافهم ولم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه فهو أجل من أن يستنكف عن تفدية نفسه أو يبخل في شيء من أمر الله بمهجته فهذا شيء تكذبه سيرته الشريفة ومظاهر حياته ، على أن الله شهد في رسله على خلاف ذلك كما قال تعالى : « ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً » : الأحزاب : ٣٩ وقد قال تعالى في أمثال هذه الفروض : « فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » : آل عمران ـ ١٧٥ ، وقد مدح الله سبحانه طائفة من عباده بأنهم لم يخشوا الناس في عين أن الناس خوفوهم فقال : « (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ