والبداء بإظهار سبب آخر يقهر ما يخالفه من الأسباب ، وقد تقدم ما يدل عليه في حديث خلقة الجنين في أوائل سورة آل عمران. وفي معناه أحاديث أخر تثبت لله المشية وجواز المحو والاثبات في الأمور.
ويمكن أن توجه هذه الأخبار بوجه آخر أدق يحتاج تعقله إلى صفاء في الذهن وقدم صدق في المعارف الحقيقية ، وهو أن السعادة والشقاوة في الانسان إنما تتحققان بفعلية الادراك واستقراره ، والادراك لتجرده عن المادة ليس بمقيد بقيودها ولا محكومة بأحكامها ومنها الزمان الذي هو مقدار حركتها ، ونحن وإن كنا نقدر بالنظر إلى كون المادة تنتهي بحركتها إلى هذه الفعلية أن السعادة بعد زمان الحركة لكنها بحسب حقيقة نفسها غير مقيدة بالزمان فما بعد الحركة منها هو بعينه قبل الحركة وذلك نظير ما ننسب أمورا حادثة إلى فعل الله سبحانه فنقيد فعله بالزمان نقول : خلق الله زيدا في زمان كذا ، وأهلك قوم نوح ، ونجى قوم يونس ، وبعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في عصر كذا فنقيد فعله بالزمان وإنما هو كذلك من حيث نظرنا إلى نفس الحادثة وكونها مأخوذة في نفسها من دون الزمان والحركة التي انتهت إلى وجودها وأما لو أخذت مع زمانها وسائر قيود ذاتها على ما عليه الامر في نفسه فالفعل الإلهي غير متقيد بالزمان لأنه موجد مجموع الحادث وزمانه وسائر ما يتقيد به ، وإن كنا ـ بالنظر إلى اتحاد ما لفعله الحادث المتقيد بالزمان ـ نقيد فعله بالزمان كما نقول : اليوم علمت أن كذا كذا ، ورأيته الساعة فنقيد العلم باليوم والساعة وليس بمقيد بهما لمكان تجرده ، وإنما المتقيد هو العمل الدماغي أو العصبي المادي الذي يصاحب العلم مصاحبة الاستعداد للمستعد له.
فالانسان لما كان انتهاؤه إلى تجرد علمي بالسعادة أو الشقاء ـ وإن كان مقارنا لجنة جسمانية أو نار كذلك على ما هو ظاهر الكتاب والسنة ـ فما له من المآل في نفسه لا زمان له وصح أن يؤخذ قبل كما يؤخذ بعد ، وأن يسمى بدء كما يسمى عودا فافهم ذلك.
ومنها : ما يدل على انتهاء خلقة الناس إلى الماء العذب الفرات والملح الأجاج كما في العلل عن الصادق عليه السلام قال : إن الله عز وجل خلق ماء عذبا فخلق منه أهل طاعته ، وجعل ماء مرا فخلق منه أهل معصيته ثم أمرهما فاختلطا فلو لا ذلك ما ولد