اختار الطاعة على المعصية وانتزع إلى الإسلام والعبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكة المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا وزلفى وأعظم ثوابا وأجرا.
وهذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الإنساني وهو أن الطاعة التي هي امتثال الخطاب المولوي من أمر ونهي ولها الفضل والشرف على المعصية وبها يستحق الأجر والثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الإنسان المتوجه إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل والترك متساوي النسبة إلى الجانبين ، وكلما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعة قوي الأثر والعكس بالعكس فليس يستوي في امتثال النهي عن الزنا مثلا العنين والشيخ الهرم ومن يصعب عليه تحصيل مقدماته والشاب القوي البنية الذي ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة وبعضها طاعة وبعضها أفضل الطاعة على هذا القياس.
ولما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة والغضب ونزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الإلهية أشبه بامتثال العنين والشيخ الهرم لنهي الزنا وكان الفضل للإنسان في طاعته عليهم.
وفيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية ولا لهم مقام استواء النسبة ولم يكن لهم شرف ذاتي وقيمة جوهرية إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية ، وتسمية المطاوعة الذاتية التي لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز ، ولو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب ولا لأعمالهم منزلة.
لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب والزلفى وأسكنهم في حظائر القدس ومنازل الإنس ، وجعلهم خزان سره وحملة أمره ووسائط بينه وبين خلقه ، وهل هذا كله لإرادة منه جزافية من غير صلاحية منهم واستحقاق من ذواتهم؟.
وقد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم : « بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » الأنبياء : ٢٧ وقال : « لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » التحريم : ٦ فوصف ذواتهم بالإكرام من غير تقييده بقيد ومدح طاعتهم واستنكافهم عن المعصية.