فتربّد (١) وجه هشام ، وامتقع (٢) لونه ، وهمّ أن يبطش بأبي فقال له أبي : يا أمير المؤمنين الواجب على النّاس الطّاعة لامامهم والصّدق له بالنّصيحة ، وأنّ الّذي دعاني إلى ما أجبت به أمير المؤمنين فيما سألني عنه معرفتي بما يجب له من الطّاعة ، فليحسن ظنّ أمير المؤمنين فقال له هشام : أعطني عهد الله وميثاقه ألّا ترفع هذا الحديث إلى أحدٍ ما حييت فأعطاه أبي من ذلك ما أرضٰاه.
ثمّ قال هشام : انصرف إلى أهلك إذا شئت ، فخرج أبي متوجّهاً من الشّام نحو الحجاز ، وأبرد هشام بريداً وكتب معه إلى جميع عمّاله ما بين دمشق إلى يثرب يأمرهم أن لا يأذنوا لأبي في شيءٍ من مدينتهم ، ولا يبايعوه في أسواقهم ، ولا يأذنوا له في مخالطة أهل الشّام حتّى ينفذ الى الحجاز ، فلمّا انتهى إلى مدينة مدين ومعه حشمه ، وأتاهم بعضهم فأخبرهم أنّ زادهم قد نفد ، وأنّهم قد منعوا من السّوق ، وأنّ باب المدينة اُغلق.
فقال : أبي : فعلوها ؟ ائتوني بوضوءٍ فأتى بماءٍ
فتوضّأ ، ثم توكّأ على غلام له ، ثمّ صعد الجبل حتّى إذا صار في ثنيّةٍ استقبل القبلة ، فصلّى ركعتين ، فقام وأشرف على
المدينة ، ثمّ نادى بأعلى صوته ، وقال : « وَإِلَىٰ
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ
وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّـهِ خَيْرٌ
لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ » (٣) ثمّ وضع يده على
صدره ، ثم نادى بأعلى صوته أنا والله بقيّة الله ، أنا والله بقيّة الله. قال : وكان في أهل مدين شيخ
كبير قد بلغ السّن وأدبته التّجارب ، وقد قرأ الكتب ، وعرفه أهل مدين بالصّلاح ، فلمّا سمع النّداء
قال لأهله : أخرجوني فحمل ووضع وسط المدينة ، فاجتمع النّاس إليه ، فقال لهم : ما هذا
الّذي سمعته من فوق الجبل ، قالوا : هذا رجل يطلب السّوق فمنعه السّلطان من ذلك وحال
بينه وبين منافعه ، فقال لهم الشّيخ : تطيعونني ؟ قالوا : اللّهم نعم ، قال : قوم صالح
إنّما ولي عقر النّاقة منهم رجل واحد ، وعُذّبوا جميعاً على الرّضا بفعله ، وهذا رجل قد قام
مقام
_________________________________
(١) تربّد وجه فلان : تغيّر من الغضب.
(٢) أي : تغيّر من حزن أو فزع.
(٣) سورة هود : (٨٤ ـ ٨٦).