الصفة. قال الچلپي وهذا الانتزاع دائر في العرف ، يقال : في العسكر ألف رجل وهم في أنفسهم ألف ، ويقال ، في الكتاب عشرة أبواب وهو في نفسه عشرة أبواب. والمبالغة التي ذكرت مأخوذة من استعمال البلغاء لأنهم لا يفعلون ذلك إلاّ للمبالغة انتهى. ويجري التجريد بهذا المعنى في الفارسي أيضا ، ومثاله على ما في جامع الصنائع : قوله : إنّ حسن روحك من النّضارة جعل منك بستانا ولكنه بستان من كلّ ناحية تبدو فيه مائة أثر للسّهام (١).
ثم التجريد أقسام. منها أن يكون بمن التجريدية نحو قولهم لي من فلان صديق حميم ، أي بلغ فلان من الصداقة حدا صحّ معه أي مع ذلك الحد أن يستخلص منه صديق حميم آخر مثله في الصداقة. ومنها أن يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه نحو قولهم لئن سألت فلانا لتسألنّ به البحر أي بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا في السماحة. وزعم بعضهم أنّ من التجريدية والباء التجريدية على حذف مضاف ، فمعنى قولهم لقيت من زيد أسدا لقيت من لقائه أسدا والغرض تشبيهه بالأسد ، وكذا معنى لقيت به أسدا لقيت بلقائه أسدا ، ولا يخفى ضعف هذا التقدير في مثل قولنا : لي من فلان صديق حميم ، لفوات المبالغة في تقدير حصل لي من حصوله صديق فليتأمل. ومنها ما يكون بباء المعيّة والمصاحبة في المنتزع كقول الشاعر :
وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى. |
|
بمستلئم مثل الفتيق المرحّل. |
المراد بالشوهاء فرس قبيح الوجه لما أصابها من شدائد الحرب ، وتعدو أي تسرع ، صارخ الوغى أي مستغيث الحرب ، والمستلئم لابس الدرع ، والباء للملابسة ، والفتيق الفحل المكرم عند أهله ، والمرحل من رحل البعير أشخصه من مكانه وأرسله. والمعنى تعدو بي ومعي من نفسي لابس درع لكمال استعدادي للحرب ، بالغ في اتصافه بالاستعداد للحرب حتى انتزع منه مستعدا آخر لابس درع. ومنها ما يكون بدخول «في» في المنتزع منه نحو قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) (٢) أي في جهنم وهي دار الخلد ، لكنه انتزع منها دارا أخرى وجعلها معدّة في جهنم لأجل الكفار تهويلا لأمرها ومبالغة في اتصافها بالشدّة. ومنها ما يكون بدون توسّط حرف كقول قتادة (٣) :
فلئن بقيت لأرحلنّ لغزوة. |
|
نحو الغنائم أو يموت كريم. |
أي إلاّ أن يموت كريم يعني بالكريم نفسه ، فكأنه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه ، ولذا لم يقل أو أموت. وقيل تقديره أو يموت مني كريم ، كما قال ابن جني (٤) في قوله تعالى (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٥) عند من قرأ بذلك أنه أريد يرثني منه وارث من آل يعقوب وهو الوارث نفسه فكأنه جرد منه وارثا وفيه نظر إذ لا حاجة إلى التقدير لحصول
__________________
(١) حسن جانت از نضارت هست بستاني وليك. بوستاني كاندر وهر سو نمايد صد ارم.
(٢) فصلت / ٢٨.
(٣) هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز. وقيل قتادة بن دعامة بن عكابة أبو الخطاب السدوسي ، ولد عام ٦٠ هـ وتوفي عام ١١٨ هـ ، صحابي جليل عالم باللغة والمفردات طبقات ابن سعد ٧ / ٢٢٩ ، معجم الأدباء ١٧ / ٩ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ / ٥٧ ، وفيات الأعيان ٤ / ٨٥ ، تذكرة الحفاظ ١ / ١٢٢ ، سير أعلام النبلاء ٥ / ٢٦٩.
(٤) هو عثمان بن جني الموصلي ، أبو الفتح. ولد بالموصل وتوفي ببغداد عام ٣٩٢ هـ / ١٠٠٢ م. من كبار أئمة اللغة والنحو والأدب. وله شعر. له الكثير من المؤلفات الهامة. الأعلام ٤ / ٢٠٤ ، إرشاد الأريب ٥ / ١٥ ، وفيات الأعيان ١ / ٣١٣ ، تاريخ آداب اللغة ٢ / ٣٠٢ ، شذرات الذهب ٣ / ١٤٠ ، مفتاح السعادة ١ / ١١٤.
(٥) مريم / ٦.