فهذه السورة بما اشتملت عليه من الجواهر الساذجيّة ، والفرائد البهيّة ، والفوائد السنيّة ؛ تذكرة لمن أراد التذكّر ، وتبصرة لمن قصد التبصّر ؛ كما قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (١).
الأولى : يحتمل أن تكون كلمة الإشارة إشارة إلى الخلقة المفهومة من قوله : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) ... إلى آخره ، أي : إنّ في خلقنا للإنسان تذكرة له ؛ حيث جعلنا فيه آيات بيّنات على كمال قدرتنا ، وعلامات شاهدات على مقام وحدتنا ، ودلالات واضحات إلى علوّ حكمتنا ، فمن تفكّر في نفسه حقّ التفكّر ، وتدبّر في أمر خلقه حقّ التدبّر ، يحصل له بالضرورة العلم القطعيّ بوجود الصانع الحكيم الّذي لا يجهل شيئا ، ولا يذهل عن أمر شيء ، ولا يشذّ عن قدرته شيء ؛ كما يحصل له العلم بالنتيجة بعد ترتيب المقدّمات القطعيّة.
ففي تفكّره استدلال بالمعلول على العلّة التامّة ، وهو أوّل مراتب المعرفة بالحقّ ، فإنّ السالك إذا فاز بتلك الدرجة فربّما يستغني عنها بالفوز بالدرجة الأعلى ، وهي الاستدلال بالعلّة على المعلول ، بأن لا يرى فيما يرى أوّلا إلّا نور الحقّ ؛ كما قال : ما رأيت شيئا إلّا وقد رأيت الله قبله.
ويدلّك على ذلك ، أي على أنّه قد يستغني عن التوجّه إلى الدليل بالالتفات إلى المدلول مقال الخليل عليه السلام على ما حكى الله عنه بقوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا
__________________
(١) ق : ٣٧.