والتجريد في الجملة ، إلّا أنّ بعضهم لإصرارهم في الإنكار والاستكبار لقد ضيّعوا ما كان فيهم من الاستعداد للرشاد ، فتمّت حجّة الله عليهم في المعاد. وقد دلّت على ذلك أخبار كثيرة لا يبقى معها الريب لمن نال السداد ، وهنا مذاهب اخرى لا تخلو عن الفساد.
منها : ما اختاره القيصريّ في «شرح الفصوص» وتبعه في ذلك جمع من الصوفيّة وهو : إنّ الله تعالى بعث الأنبياء على جميع الناس لهدايتهم إلى الكمال المقرّر لهم في الحضرة العلميّة باقتضاء استعداداتهم القديمة ، سواء كان ذلك الكمال إيمانا أو كفرا ، فأكمل الأنبياء سعادة المؤمنين ، وشقاوة الكافرين ، وأبرزوا هاتين الصفتين بالدعوة ، فمن أجابهم فيها برزت سعادته وكملت ، ومن أنكرهم برزت شقاوته وكملت ؛ كما قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً) ... (١) إلى آخره.
ومنها : ما سمعته من بعض العارفين من أنّ الأنبياء إنّما بعثوا على المعتدين المفسدين في بلاد الله ، والعاتين على عباد الله ، ليرشدوهم إلى الهدى وطريق الحقّ ؛ كي لا يفسدوا في الأرض بدعوى باطلة وغيرها من التسويلات الشيطانيّة ، فأمروهم بالعبادات والطاعات لتحسم مادّة فسادهم بانقيادهم ، وما كانوا مبعوثين على الفقراء الخاضعين المطيعين الّذين لم يريدوا في الأرض علوّا ولا فسادا ، فإنّ البعث لا ينفعهم ؛ إذ الغرض منه ما كان إلّا رفع الفساد ، ولا فساد فيهم حتّى يصلحه.
__________________
(١) التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥.