بقوله : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) لأنّ الفائز بالغرض من الهداية بحقيقة الفوز لا يختار الضلالة أصلا ، كيف وهل يختار العاقل الجحيم على النعيم الدائم ، والظلمة على النور ، والمحنة على السرور؟
فارتداد القوم عن الإيمان بعد تلبّسهم به دليل واضح يكشف عن عدم إيمانهم أوّلا ، وعدم التذاذهم بلذّات الإجابة ، فهم لقد كانوا كافرين في أوّل المرتبة غير مؤمنين في حين ، فإنّهم لو كانوا بحيث استشمّوا من الإيمان ومقام العرفان رائحة ، أو سمعوا لمفردات الحقّ رنّة لما رجعوا ، فإنّ الملتذّ من الشيء لا يكفّ عنه اختيارا ، والخارج عن الظلمات لا يرجع إليها ، فهؤلاء محرومون عن لذّة الإيمان ومحجوبون عن نور العرفان.
وقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (١).
الثانية : في نسبة الهداية إلى ذاته تعالى إشعار بأنّ الشيء ينسب إلى المبدأ الأعلى ، فإنّه هو العلّة التامّة الجاعلة لجميع العلل ، فكلّ العلل أسباب مجعولة وآلات مقرّبة مستندة إلى العلّة الأولى ، فإنّه لو لم تكن العلّة الأولى لما تحقّقت تلك العلل ، كيف وعلّيّتها إنّما هي بعلّيّة الأولى ، فإليها ينبغي أن تستند الأمور الحاصلة من العلل المتوسّطة وإن كان الاستناد إليها جائزا أيضا.
قال المحقّق الطوسيّ في «شرح الإشارات» : قد شنّع عليهم أبو البركات البغداديّ بأنّهم نسبوا المعلولات الّتي في المراتب الأخيرة إلى المتوسّطة ، والمتوسّطة إلى العالية ، والواجب أن ينسب الكلّ إلى المبدأ الأوّل ، ويجعل
__________________
(١) النساء : ١٣٧.