يتوار عن الوطن ، فهو بعد في الوطن ، وإذا توارى عنه وغاب فقد خرج عن حدّ الحضور ، ودخل في حدّ الغيبة عن الأهل والوطن ، إذ عرفت أنّ القصر لا يجب على الحاضر ، بل يجب على المسافر الذي هو في مقابل الحاضر.
وليس المراد أنّ المكلّف يعتبر هذا لابتداء قصره ، لأنّه لا يعرف أنّه متى توارى عن البيوت ، إنّما يعرف تواريه أهل البيوت ، فلا يكون هذا أمارة اخرى لحدّ الترخّص ، بل الأمارة منحصرة في خفاء الأذان ، كما قال به ابن إدريس (١) ، فإذا أراد المكلّف أن يعرف أنّه متى توارى عن البيوت اعتبره بعدم سماعه الأذان المتوسّط ، فهو المعرّف للتواري ، والتواري علّة ابتداء القصر وحدّ الترخّص.
ويمكن أن يستعلم ابتداء تواريه بأن يلاحظ طرف بيوته ، فإن كان يرى الشخص الذي يكون عند بيوته راكبا أو ماشيا ، علم أنّه لم يتوار بعد ، لأنّ ذلك الشخص أيضا يراه كما أنّه يراه ، إذ لو كانا من مستوي الخلقة لكان رؤيتهما ودركهما واحدا ، وإن لم ير شخصا عند بيوته ظهر له أنّ أهل بيوته أيضا لا يرونه.
فالعبرة إنّما هي بمستوى الخلقة ، فيكون هذا هو المراد من تواريه عن البيوت ، لا ما ذكره الفقهاء.
لكن عرفت فساد ذلك ، فإن المعتبر هي الغيبة عن البيوت ، لا عن من يكون فيها ، وبينهما بون بعيد ، فيشكل مخالفتهم بالمرّة ، سيّما بعد ملاحظة جميع ما ذكرنا.
وكيف كان ، لا إشكال علينا بعد اعتبار خفاء الأذان والقول باتّحاد مسافته مع مسافة خفاء الجدران ، أو خفائه عن أهل الجدران ، على ما هو الحقّ ، كما عرفت.
والعبرة بالبيوت لا بالأعلام ولا القباب ولا الأسوار ولا البساتين ، إلّا أن
__________________
(١) السرائر : ١ / ٣٣١.