الآلهة القساة ، وفي التوراة يخلص نوح من معه لأنه إنسان بار ، وفي القصة البابلية ينال البطل النجاة لأن له نصيرا من بين الآلهة الكثيرة ، فقصة التوراة تقدم لنا ديانة توحيدية ، ولكن البابليين يقدمون لنا أحط دركات الديانات التي تنادي بتعدد الآلهة ، وهكذا نرى الفارق العظيم بين فكرة الوحي السامية في قصة التوراة ، وبين الفكرة الخرافية المليئة بالخيالات والأوهام والمتناقضات في القصة البابلية ، مع أنها خلاصة أرقى ما وصل إليه الفكر البشري في دولة ساميّة متحضرة (١).
والحق أن ما يقوله الدكتور «جون إلدر» ليس هو الحق كل الحق ، ذلك لأن الطوفان كان في القصتين عقابا من الإله لمحو الأشرار ، فكما أخبر نوح بأن الطوفان كان لأن الرب أراد أن يمحو الإنسان الذي خلقه لأن شره كثر في الأرض (٢) ، فكذلك أخبر «زيوسودرا» أن الآلهة أرادت بالطوفان أن «تقضي على بذرة الشر» ، وكما أن نوحا قد أنجي لأنه إنسان بار ، فالأمر كذلك بالنسبة إلى «زيوسودرا» ، لأنه كان ملكا صالحا تقيا ، يخشى الإله ، كما كان يتلهف شوقا إلى الاتصال بالوحي الإلهي في الأحلام وفي تلاوة التعاويذ والأدعية ـ وهي صفات لو كان الدكتور إلدر غير متعصب في حكمه ، لعرف أن التوراة لم تسبغها على نوح ، الأمر الذي لم يظهر بما يتفق ومكانة النبي الكريم في غير القرآن الكريم ـ بخاصة إذا علمنا أن القصة السومرية ـ وليست قصة التوراة ـ هي التي تقدم لنا بطل الطوفان (زيوسودرا) وهو يجلس إلى جانب حائط ، يستمع إلى صوت وحي إلهه ، وهو يبلغه القرار بإهلاك البشر (٣).
وأما أن قصة التوراة تقدم لنا ديانة توحيدية ، وأن الأخرى ليست كذلك ، فذلك أمر نتفق فيه معه بحذر ، كما أن أحدا لم يقل ـ بل حتى لم يفكر ـ في أن ديانة السومريين ـ ـ والبابليين من بعدهم ـ كانت ديانة توحيدية ، ومع ذلك ألا يرى «الدكتور جون إلدر» أن قصة التوراة لا تقدم لنا ديانة توحيدية ـ كما نعرف التوحيد الآن ـ. صحيح أن ديانة السومريين والبابليين ديانة وثنية ، بل ومغرقة في الوثنية كذلك ، ولكن صحيح
__________________
(١) جون إلدر : الأحجار تتكلم : ص ٣٤ ، ٣٥ وانظر كذلك.M.F.Unger ,op.cit.,P.٢٧٣ ـ ٣٧٣.
(٢) تكوين ٦ : ٥ ـ ١٢.
(٣) صمويل نوح كريمر : من ألواح سومر ـ ترجمة طه باقر ص ٢٥٤ ـ ٢٥٦ ، القاهرة ١٩٥٧.