(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] والعلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» (١) ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» (٢) وفي التنزيل (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] فالمصلي يبتغي وجه الله ، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس ، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد ، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة ، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص ، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين ، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين ، ثم قم قائما (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) ، [الروم : ٣٠] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل «الله أكبر» أي من الكل كما مر ، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم «الإحسان أن نعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (٣) أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضياللهعنه : التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت «الله أكبر» فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل «سبحانك اللهم وبحمدك» ثم قل «وجهت وجهي» ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة ، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين ، فإذا قلت «بسم الله الرحمن الرحيم» أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون ، وإذا قلت «الحمد لله رب العالمين» أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] وإذا قلت «الرحمن الرحيم» أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال ، وإذا قلت «مالك يوم الدين» أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال ، وإذا قلت
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب البر حديث ٣٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٦. أبو داود في كتاب اللباس باب ٢٥. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٨).
(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩١. أحمد في مسنده (٤ / ١٧٧).
(٣) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٣١ باب ٢. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥٧. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٥٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٧ ، ٥١).